أنا لم أعد أصدق، بل أصبح لدي هذا الشك، وهذا السؤال، وهذه الدهشة تجاه الأغاني التي واكبت الحرب على غزة، وأحدثها " Hold Your Fire" فكرة وتلحين كاظم الساهر، كلمات توم لو، توزيع ميشال فاضل.. لم يبهرني الترويج المدوي للأغنية بأنها نتيجة التعاون مع جمعية الأمم المتحدة للموسيقى الكلاسيكية بإدارة بريندا فونجوفا، أو أن قيصر الأغنية العربية سيتبرع بالجزء الأكبر من عائدات البث لدعم الجهود الإنسانية للأمم المتحدة من خلال وكالة الأونروا "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى"، واليونيسف "منظمة الأمم المتحدة للطفولة"، و"برنامج الأغذية العالمي"، حسبما نُشر في أكثر من موقع، كما لم يذهلني أنها باللغة الانجليزية حتى تصل إلى العالم على حد قول كاظم الساهر نفسه، خصوصًا أن هناك من العرب من يحتاج أن تصله الرسالة أكثر من الأجانب والغرب الذي وعت شعوبه الحكاية وأدركتها، لكني انتظرت أغنية تناسب الحدث الفلسطيني الجلل، والحرب الغاشمة على غزة، يعني على الأقل تساوي ما تم ترويجه عن الأغنية بأنها تهدف إلى تسليط الضوء بشأن الكارثة التي تحدث في الأراضي الفلسطينية، وما يتعرض له أهل قطاع غزة من وحشية الصهاينة، أما كلمات " Hold Your Fire" فقد جاءت عامة، كلمات متحاذية، متتابعة، يمكن أن تصف أية حالة وليس شرطًا أن تخص الحالة الفلسطينية تحديدًا، حتى وإن رافقتها الصورة من غزة، فهي صور تتمدد على الشاشة دون إصغاء لصوت الساهر الدراماتيكي، الباهت، وهو يدور في دائرة النحيب واستنزاف المعاني والأشكال الموسيقية في الغناء، دون أن يحقق ما كان مأمولًا منه.
الخفوت هذا في أغنية الساهر، هو ذاته ضعف التوهج في أغنيات أخرى ظهرت مؤخرًا بتفاوت وتباين في التوقد والتوهج، كما مثلًا في أغنية محمد منير"يا فلسطيني ينصر دينك"، كلمات عصام عبدالله، ألحان كامل الشريف، توزيع فتحي سلامة، إخراج أحمد عبدالمحسن، على الرغم من حماس منير نفسه في الحديث عن أغنيته واصفًا صوته بأنه سلاحه في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها الوطن العربي كله، وأن أغنيته صادرة من القلب، تعكس الصمود والمقاومة والتصدي الذي يقوم به الفلسطينيين، أمام عدوان غاشم قاتل مجرم حرب:"يسكت يسكت نبض الشعب وفجأة يطرشقلك شرايينك.. يا اللي مخطط تلغي العدل، وشياطين الشر في تكوينك، يسكت يسكت الاستحمال، لما مراره يساوي الموت، ينتحر الصبر في فيضانه، وينفجر الشعب المكبوت، تسرق، تحرق، تقتل، تهدم، وتتفنن في صنوف الغدر، آدي الشعب، إن حب يرد، بحجارة جندل تكوينك، يا فلسطيني يا فلسطيني، ينصر دينك"..
مع ذلك فإن لا أغنية منير ولا أغنية كاظم ولا حتى أغنية علي الحجار " من فوقنا من سابع سما" كلمات وألحان محمد ياسر، توزيع وسام عبد المنعم، كان لهم صدى جماهيري كبير أو صغير، بل أن البعض تندر على كلمات الحجار مشيرًا إلى أنها كلمات عادية لا تحمل مغامرة فنية أو سند فني للحالة الإنسانية في غزة أو فلسطين، بل الفنان اكتفى بسرد ما هو معروف وطالب بالدعاء:"همتنا بتزيد بالدعا فا مرددين، حالفين لترجع أرضنا قولوا آمين"..
الأمر ذاته ينطبق على الأغنية الجماعية "راجعين" شارك فيها 25 مغنيًا وموسيقيًا، أشرف على توزيعها الموسيقي الأردني ناصر البشير، بمشاركة المغني وكاتب الأغاني والملحن المصري مروان موسى، والموزع عمرو الشوملي، وأغنيات أخرى سايرت اللحظة ولكنها لم تفلح في التعبير عنها أو الوصول للناس، هنا يبدو السؤال البديهي: لماذا لم تنجح هذه الأغاني؟ وسؤالنا ليس نوعًا من الترفيه وإنما الأغاني هنا والفن عمومًا هو نوع من التنفيس والتحميس في الوقت ذاته، وعلى مدار التاريخ كانت الأغنية كتفً بكتف القضايا الكبرى ومنها قضيتنا العربية في فلسطين، وحتى الآن مازالت أغنيات مثل: أصبح عندي الآن بندقية "أم كلثوم" ، المسيح "عبد الحليم حافظ"، زهرة المدائن، القدس العتيقة، وحدهن وغيرها "فيروز"، حتى يا العمارة "منير" وقبلها يا فلسطينية والبندقاني رماكو "الشيخ إمام ونجم"، عتقوها أمي فلسطين "ناس الغيوان/ المغرب" وأغنيات مارسيل خليفة وأحمد قعبور وجوليا بطرس وغيرهم في لبنان، الأمثلة كثيرة من أغنيات زخر بها أرشيفنا الغنائي الوطني وشكلت الوجدان الشعبي وتفوقت على كل الخًطب السياسية.
المثير أنه خلال الأيام الماضية ومنذ السابع من أكتوبر وبدء "طوفان الأقصى" إنتشرت أغنيات قديمة، لم تتأهل لهذا الحدث تحديدًا، حيث تجدد حضور الأغنية السويدية "تحيا فلسطين" بعنوان "Leve Palestina"، بعد نحو 45 عامًا، وهي أغنية قدمتها فرقة "كوفية" السويدية الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، كتبها الفلسطيني المهاجر جورج توتري مؤسس الفرقة، للتعريف بقضية بلاده: "تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية.. نحن زرعنا الأرض.. ونحن حصدنا القمح.. ونحن قطفنا الليمون.. وعصرنا الزيتون.. وكل العالم يعرف أرضنا، تحيا تحيا تحيا فلسطين. تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية.."، رافقت الأغنية المظاهرات الحاشدة في الدول الأوروبية وصارت أيقونة للقضية الفلسطينية، وهو ما حدث بتنويع أخر مع أغنية الفلسطيني محمد عساف التي طُرحت منذ نحو تسع سنوات من كلمات سليمان العساف، ألحان وتوزيع وائل الشرقاوي:"على عهدي على ديني.. أنا دمي فلسطيني".
بالطبع لا يمكن تجاهل السيدة حليمة الكسواني "أم العبد" بألوانها الزاهية في ثوبها الفلسطيني المطرّز وهي تشدو بصوتها الدافيء، الداعم من التراث الفلسطيني :"شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين شدوا بعضكم ما ودَّعتكم، رحلة فلسطين، ما ودعتكم، على ورق صيني لأكتب بالحبر على ورق صيني يا فلسطينِ، عَ اللي جرى لك يا فلسطينِ".. الأغنية التي رددتها أجيال مختلفة وأكملوها باشتغالات فنية عدة تعمق الحالة وترسخ لمواصلة النضال والتكاتف بعيدًا عن أية سياقات أخرى تعرقل المقاومة.
يظل السؤال مطروحًا حول تعثر الكبار في التواصل مع الحدث أو الناس، في تصوري أن الأمر كان لا يستلزم فقط مغامرة إنما حضور فعلي وصادق مع ما يجري على الأرض الواقع، فنحن لا يعنينا حضور الصورة وحدها، أو بمعنى أخر حضور الجسد وحده، إنما يكتمل المعنى بحضور الجسد والروح، وهذا ما كنا نأمله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة