لا يعنينى من هذا الطرح، إلقاء اللوم الشديد على طرف بعينه، ولا الهدف من هذا المقال أن أشيطن طرفا وأُبرئ آخر، ولكن الهدف الجوهرى من الطرح إلقاء الضوء على الوضع المأساوى فى السودان الشقيق، وأن الحرب فى غزة سيطرت على المشهد واستحوذت على كل الاهتمام، وانشغل الجميع بالجرائم الوحشية والبربرية التى يرتكبها العدو المحتل، لكن المؤلم فى الحرب الداخلية السودانية أن أعداد القتلى ومشاهد الجثث المتحللة فى العراء، والدماء التى تسيل وتغرق شوارع السودان الطيب المكلوم، تدمى القلوب.
الدماء الغزيرة التى تسيل فى الشوارع، وحالة الفوضى العارمة، حولت السودان الشقيق لدولة فاشلة، وهو أمر قاسٍ ومؤلم ومحزن ولا يمكن أن يقبله إنسان يتمتع بضمير حى يقظ، فما البال بنا نحن المصريين نتألم بقسوة مما يحدث فى الأرض الطيبة، فبيننا وبين الأشقاء فى السودان، روابط دم ومصاهرة ولغة وعقيدة، بالإضافة إلى فضيلة الجيرة، والعمق الاستراتيجى.
الوضع فى السودان بلغ نقطة «الشر المطلق»، وفق ما وصفه أحد المسؤولين بالأمم المتحدة، عن الأحداث الدامية، والعنف المستشرى والذى وصل إلى مرحلة الإبادة على أساس عرقى وقبلى فى دارفور، وهى نفس حرب التصفية والإبادة فى غزة، ولكن الفارق بينهما أن الإبادة فى غزة على يد محتل غاشم انقرضت من صدره كل القيم الإنسانية، واندثر الضمير الذى كان الكيان يزهو به بأنه أول شعب عرف الضمير مع نزول التوراة، رغم أن الوثائق والشواهد التاريخية تؤكد أن المصريين القدماء توصلوا للضمير الإنسانى قبل هبوط الديانات السماوية بألفين سنة على أقل تقدير، وهى الوثائق الذى استشهد بها المؤرخ والخبير الأثرى الأمريكى جيمس هنرى برستيد، فى كتابه الشهير «فجر الضمير».
بينما حرب الإبادة فى السودان للأسف على يد أبناء الوطن الواحد، وتحركها أطراف خارجية باحثة عن مصالح ومنافع خاصة، ولا يهمها أن تحقق مصالحها على جثث وأشلاء أبناء السودان، أو أن تتحول إلى دولة فاشلة، تحكمها العصبية والقبلية ويستباح أمنها القومى، وتصبح «رقم خِصم» من أرقام معادلة القوة العربية.
نعلم فى مهنة الإعلام أن حدثا يَجُب حدثا، أى أن حدث غزة قتل الاهتمام بأحداث الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الاقتتال الداخلى فى السودان، ولكن يجب على الأشقاء العرب وضع ما يحدث فى السودان من بين فقه أولوياتهم فى إيقاف نزيف الدماء وعملية القتل المستعرة، وتحلل الجثث فى الشوارع دون أن يواريها الثرى، فى مشاهد مأساوية، كما يجب على المجتمع الدولى أن يجمع شتات ما تبقى من ضمير وقيم إنسانية، ويتخلص من الابتزاز العاطفى الرخيص الذى يمارسه الكيان الصهيونى، بإعلاء شأن فضيلة العدل، وأن يتدخل بقوة لإيقاف الحرب فى غزة بشكل دائم، والإعلان الفورى بالاعتراف بدولة فلسطينية، كما يدعون إلى إقرار السلام فى السودان بالتعاون مع مصر والأشقاء العرب.
وفى الأخير نسأل أين المؤسسات التى تمسك بزمام سيف العدالة وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان مثل الأمم المتحدة، و«اليونيسيف» المدافعة عن الطفولة وهى ترى آلاف الأطفال فى غزة يُقتلون، وأطفال السودان يموتون من الجوع، وأين منظمة «هيومان رايتس ووتش» صاحبة المشاعر المرهفة، بالغة الرقة، التى تحتفل بعيد ميلاد سجين جنائى على وقع المجازر فى غزة!
ولا نملك سوى أن نؤكد بكل صدق وإنصاف، على أن التاريخ سيقف أمام دور مصر فى هذه المرحلة، حيال ما تبذله لأشقائها، وتحملها ما لا يتحمله طاقة البشر.