عندما زارتني في المساء, كنت على أهبة الاستعداد، كان الجو رطبا، والمسمات تتقلص وترتخي، بين تقلبات الجو، ارتفعت الحرارة قليلا، ورعشة لامست قلبي قبل جلدي، كان الخمول وكسرا في عضلاتي، بدأ سعال بسيط، وصدر ينهج بين الحين والآخر، سيلان من الأنف، شيء يغزو جسدي، يفقدني توازني، وضربات القلب تشتد، عينياي مغرورفتان بدموع باردة، لا أدري من أين جاءت؟ أشعر بشيء جاف يجتاح حلقي، يتيبس جسدي، وكأن شيء يعتصره، يتصبب ماءا ساخنا, وجبهتي تتفصد عرقا يتساقط، أقوم في ثقل، أحس أني أقاوم شيء، يدفعني بقوة، ولكني أحاول الثبات، تخونني قدماي، أتوكأ على الحائط المائل في عيني، أجلس في هدوء، أضع راسي على وسادتي، تهاجمني أفكار غريبة، أهو الموت؟ يأتيني في تلك الساعة، لكني أتلعثم، ما بين نفسي والحقيقة، يتشعب الخوف في مفاصلي، ليربك أعصابي، آخذ شكلا غريبا، أنفصل عن ذاتي، لأراني في اللحظات الأخيرة، قبل الرحيل، أنظر إلي، من فوق حجرتي، وأنا ألتصق بالسقف، أراني ممددا ضعيفا، تفترسني الحمى، أنفاسي تعلو بصدري في مشقة، ويهبط كأنما يهبط دركات سلم إلى قبو مظلم، وأراها وهي تتلاشى في اللاشيء، واللا حدود، أيأس من عودة النفس الهابط، يواصل الصدر مهامه في ألتقاط نفسا أخر، يعلو به الصدر المشطور بسكين الألم، أجفاني بين اليقظة والمنام، غارقة في عرق الجباه، ذهني الشارد، هذيان العقل في أحلام العقل الباطن، تقلص الزمن، خليط من كل شيء، طفولة وأولاد يمرحون، ضربات الرأس الموجوع، آمال مبعثرة في طريق الوحل، سفينة فضاء تسقط عند قدمي، أدفعها قليلا بقدمي المثقلة بهزيمة الحمى، لساني يتخبط في الكلمات والمعاجم، يضرب بالمنطق عرض الحائط، يحب، يلقي قصيدة عشق، يجري على فمه رياض زكية، هواء ماء وزهور تحيط بالجسد، يسب، يلفظ بالعيب المخبأ في الحنايا، يطيح بالوقار بسمت الجمال، يطفح فمه برائحة العطن، الحمى تشتد والأعضاء تتفلت من تحت سيطرة العقل، الشيطان يتلبس بي، أهذا أنا؟ تلتف حولي كل الخروقات، زويا النقص، تبدو أنها تنتظر الإنقضاض، رأسي غريب عني، لا أعرفه، الضعف في هيكلي المتخاذل يعلن استنفاره، تحولت تغيرت ملامح وجودي, بدت سوأة أعماقي تؤثر في شكل وجهي، إصفرار مريب، يتحول إلى سواد، أطراف أناملي تتآكل، أدقق النظر إلي, حين أتحول، لم أعد أعرفني, أنقطعت صلتي بجسدي المرتعش من شدة الحمى، تتشابك في الذهن الخاوي خيوط الوهن، وتلتف حول عنقي, لتخنقي، أعافر كي أبقى, لا أريد أن أموت، رغم عدم إدركي، فأنا أريد البقاء على قيد الشعور، أتلمس الحقيقة الغائبة، لعلني أعود، كادت الدهشة، أن تذهلني، كيف لي أن أتمسك بالحياة، وأنا الآن بشع بالفعل، وانا غير ما كنت، وقد صرت غير ما أعرف.
يد تمتد إلى الجبين الملتهب بحرارة الحمى، يد حانية، تبث السكينة للجسد الفائر المتمرد، خرقة من قماش قديم، في الماء البارد، ممزوج بدعاء، بإبتهال إلى السماء، بدمعة خوف، بالرجاء، تتحسس فوق الجبين المتوهج، تطفأ به الحجيم المنبعث من جوانب الجسد، كأنها تمتص بيديها الألم، والمرض بقوة روحها، حين تتسرب إلى جوانحي، تمنحي القوة، قرص إسبرين تذيبه، كوب من الليمون الدافيء، ثم لمست يد، تبرأ الجسد الهزيل, تمحو عنه كل ضعف، تمسح بيديها الطاهرتين وجعا سرمدي, كاد أن يفتك بخلاياه, يستعيد الجسد البالي الحياة, شيئا قشيئا، تدب الروح من جديد في الخلايا التي مزقتها الحمى، تعيد بناء ما تحطم، تفيق المناعة من ثباتها العميق، تتأهب للقتال، تمضي بجيشها، تتقدم، توزع الأدوار، يعيد الوجه استدارته، العينين تستيقظان في نعاس، ثم تحدقان متأهبتان، العصب في طريقه إلى إتخاذ مكانه من القوة، تنتبه الكُرَات جميعا في إتزان أعدادها، العقل يفيق من هذيانه، يرتشف المعاني واختيار الكلمات، يعيد النظام، أنسحب من سقف الحجرة، أتلبس بي، وأبتسم، كانت يد أمي ما زالت تعمل، وقلبها ينبض بي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة