لم يدخل هنرى كيسنجر البيت الأبيض كرئيس، أو حتى نائبا لرئيس، ولم تستمر علاقته الرسمية بالسلطة أكثر من ثمان سنوات شغل فيها منصبى رئيس مجلس الأمن القومى ووزير الخارجية، وكليهما معا لفترة. لكنه اكتسب من النفوذ والثقل ما جعل اسمه بين أشهر ساسة أمريكا فى العالم، وما جعل كلمته مسموعة لعقود طويلة حتى بعد أن أتم من العمر مائة عام.
ومثلما كانت حياته مثيرة وحافلة ومحل انقسام، كانت وفاته، التى أعلن عنها الأربعاء، عن عمر تجاوز القرن، تذكيرا بإرث هذا الرجل، اختلف معه الكثيرون أو اتفقوا، وإبرازا لإسهاماته فى مجال السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين، والذى يعد أحد أهم أبرز الملفات المطروحة على طاولة الرئيس الحالى جو بايدن.
كانت بداية كيسنجر فى عالم السياسة الخارجية فى عام 1969، عندما انضم إلى البيت الأبيض فى مستهل رئاسة ريتشارد نيكسون، كمستشار للأمن القومى، ثم تم تعيينه وزيرا للخارجية فى عام 1973، قبل أسبوعين فقط من حرب السادس من أكتوبر. واحتفظ كسينجر بالمنصبين معا، وهو الشخص الوحيد على الإطلاق الذى شغل المنصبين، بحسب صحيفة واشنطن بوست، مما اكسبه سيطرة على السياسة الخارجية الأمريكية نادرا ما يعادلها أى شخص لم يكن رئيسا.
وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن كيسنجر، العالم الذى تحول إلى دبلوماسى، كان مهندس انفتاح أمريكا على الصين، وتفاوض لخروجها من فيتنام، واستخدم المكر والطموح والفكر لإعادة صناعة علاقات القوة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتى فى ذروة الحرب الباردة، والذى كان يدوس فى بعض الأحيان على "القيم الديمقراطية" فى سبيل ذلك.
ولفتت الصحيفة إلى أن كسينجر قدم المشورة لـ 12 رئيسا أمريكا، أى أكثر من ربع من شغل المنصب، بدءا من جون كينيدى وحتى جو بايدن، بفهم العالم للتاريخ الدبلوماسى، واللاجئ اليهودى القادم من ألمانيا، والعازم على النجاح فى أرضه الجديدة، وبئر عميق من انعدام الأمان ولكنة ألمانية بافارية صاحبته طوال حياته، والتى أضافت أحيانا عنصر لا يمكن فك شفرته إلى تصريحاته.
وعن أبرز القضايا التى لعب فيها دورا بالغا، قالت الصحيفة إن المفاوضات السرية التى أجراها كسينجر مع الصين أدت إلى الإنجاز الأشهر لنيكسون فى السياسة الخارجية، والتى كان المقصود منها أن تكون خطوة حاسمة فى الحرب الباردة لعزل الاتحاد السوفيتى، ومهدت الطريق للعلاقة الأكثر تعقيدا فى العالم بين واشنطن وبكين. وخطط كيسنجر لزيارتين غير مسبوقتين إلى الصين الأولى من جانبه عام 1971، ثم زيارة نيكسون التاريخية عام 1972.
مهندس الانفراج مع الصين
وقالت نيويورك تايمز إن كسينجر ظل على مدار عقود الصوت الأكثر أهمية فى أمريكا فى إدارة صعود الصين وما يفرضه من تحديات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية. وكان الأمريكى الوحيد الذى تعامل مع كل قادة الصين منذ ماو تسى تونج وحتى الرئيس الحالى شى جين بينج. وفى يوليو الماضى، وعندما أتم 100 عام، التقى كسينجر بشى وقادة الصين الآخرين فى بكين حيث تم التعامل معه كالملوك الزائرين حتى فى الوقت الذى تحولت فيه العلاقات بين بكين وواشنطن إلى العداء.
وتجلت علاقة كيسنجر الفريدة بالصين بعد وفاته، أحيث رسل الرئيس الصينى شى جين بينج برقية عزاء لنظيره الأمريكى جو بايدن فى وفاة هنرى كيسنجر، فيما نعاه مسئولون ووسائل إعلام رسمية فى الصين
وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانج وينبين إن الولايات المتحدة والصين يجب أن ترثا وتحملا رؤية مكسينجر الاستراتجية وشجاعته السياسية وحكمته الدبلوماسية وتعزيز تطوير صحى ومستقر ومستدام للعلاقات الصينية الأمريكية.
وترددت أصداء هذه الرسالة فى الإعلام الحكومة الصينى، بحسب ما ذكرت واشنطن بوست. ووصف التلفزيون الرئيسى بالصين كسينجر بالدبلوماسى الأسطورى، و"حفرية حية" شهدت تطوير العلاقات الأمريكية الصينية.
وقالت وكالة الأنباء الصينية فى نعى نشر بعد الإعلان عن وفاة كيسنجر، إن هذا الصديق القديم للشعب الصينى الذى كان لديه رؤية حادة وفهم شامل للشئون العالمية قد أتم حياته الأسطورية.
فيتنام والاتحاد السوفيتى
من القضايا الأخرى التى لعب فيها كيسنجر دورا حاسما، قضية الخروج الأمريكى من فيتنام، حيث كانت الولايات المتحدة تتكبد خسائر فادحة دون قدرة على تحقيق أهدافها بالقضاء على الشيوعية فى البلاد، فى إطار الحرب الباردة الشرسة فى هذا الوقت.
وبدأ كيسنجر مفاوضات باريس التى أسفرت فى النهاية فى وسيلة لحفظ ماء الوجه لإخراج أمريكا من حربها المكلفة فى فيتنام، والتى أسماها كيسنجر "فترة فاصلة لائقة".
كما اتبع كيسنجر سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتى التى أدت إلى اتفاقيات الحد من الأسلحة، وأثارت احتمالات ألا تستمر توترات الحرب الباردة والتهديد النووى إلى الأبد.
ومن بين إنجازاته فى هذا الشأن إقرار معاهدة الحد من الأسلحة (سولت 1) لعام 1972 مع الاتحاد السوفيتي، والتي تم التفاوض عليها عندما كانت القوتان العظميان النوويتان منخرطتين في حرب باردة وتواجه كل منهما الأخرى في حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم.
وتضع اتفاقيات "سولت" قيودا على أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ الباليستية وعلى نشر الصواريخ الهجومية وتلزم البلدين فعليا بـ"الانفراج بدلا من المواجهة".
الدبلوماسية المكوكية والشرق الأوسط
اشتهر كيسنجر بدبلوماسيته المكوكية فى الشرق الأوسط فى فترة حرب السادس من أكتوبر 1973، التى اندلعت بعد أسبوعين فقط من توليه وزارة الخارجية. وتدخل الوزير الأمريكى فى هذا الوقت بزيارات متسارعة بين العواصم العربية وإسرائيل فى مسعى لوقف إطلاق النار، فكان يخشى أنه فى حال تصاعد الصراع سيصبح أول صراع عسكرى مباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، حيث أقامت الأولى جسرا جويا لحليفتها إسرائيل، بينما كان الاتحاد السوفيتى مصدر السلاح الرئيس للجيشين المصرى والسورى.
وابتداءً من يناير 1974، ذهب كيسنجر إلى الشرق الأوسط 11 مرة للترويج لاتفاقيات فض الاشتباك العسكرى تمهيدا لبدء مفاوضات السلام. وكانت أكثر مهمات "الدبلوماسية المكوكية" شهرة هي الماراثون الذي استمر 34 يوما حيث زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ستة دول أيضا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة