وما التاريخ إلا «كتالوج» الحاضر والمستقبل، نستعين به لتفكيك شفرات الأحداث الجسيمة، المستعصية على الحل، ويعيد الحقوق لأصحابه، وتخرج من رحمه العبر لمن يعتبر.
منذ 9 سنوات، كان الرئيس عبدالفتاح السيسى فى بدايات حكمه، مدشنا قدرة مصرية هائلة على التمتع ببُعد النظر، وقراءة واقعية للأحداث فى المنطقة، وتميزا مبهرا فى تجميع الأوراق المبعثرة، لوضع سيناريو مجابهة المخاطر، لذلك أطلق فى عام 2015 رسالة تحذير مبكرة، للأشقاء العرب بضرورة تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة، تكون درعا وسيفا، وتحفظ وتصون الأمن القومى العربى.
الفكرة لاقت ترحيبا وموافقة من بعض الدول، وفى 29 مارس 2015 قرر مجلس جامعة الدول العربية، الموافقة رسميا على الفكرة، وصدر قرار الموافقة رقم 628 وتقرر إعداد بروتوكول مكتوب، يتضمن 12 مادة، يحدد تعريفا كاملا لمهام القوة، وجاء فى المادة الثانية ما يلى:
- التدخل العسكرى السريع لمواجهة التحديات والتهديدات الإرهابية التى تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومى العربى.
- المشاركة فى عمليات حفظ السلم والأمن فى الدول الأطراف، سواء لمنع نشوب النزاعات المسلحة، أو لتثبيت سريان وقف إطلاق النار واتفاقيات السلام، أو لمساعدة هذه الدول على استعادة وبناء وتجهيز قدراتها العسكرية والأمنية.
- المشاركة فى تأمين عمليات الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين فى حالات الطوارئ الناجمة عن اندلاع نزاعات مسلحة، أو فى حالة وقوع كوارث طبيعية تستدعى ذلك، وحماية وتأمين خطوط المواصلات البحرية والبرية والجوية بغرض صيانة الأمن القومى العربى ومكافحة أعمال القرصنة والإرهاب، وعمليات البحث والإنقاذ، بجانب أية مهام أخرى يقررها مجلس الدفاع.
لكن ووفق كتالوج التاريخ، فإن الحلم العربى دائما ما يتحطم على صخرة الخلافات وقصر النظر فى قراءة واستشراف المستقبل، فماتت الفكرة، ودُفنت تحت الثرى، وكأن بعض الدول لم يرُق لها تشكيل هذه القوة.
الرئيس عبدالفتاح السيسى - حينها - حذر من أن الجميع فى قلب دائرة الخطر، ولا توجد دولة واحدة بمنأى عن الوقوع فريسة فى دوامته، لذلك يستوجب أن تكون للعرب قوة عسكرية قادرة على الدفاع والردع، وتصون الأمن القومى العربى من مخاطر الأطماع، لكن للأسف - وكالعادة العربية «العتيقة» والمستمرة دون انقطاع أبدا - قرروا قتل الفكرة بدم بارد، رغم جدية خطوات التنفيذ.
وصدقت تحذيرات مصر، كالعادة، ورأينا ما نراه الآن، عندما تتكحل عيوننا صباحا ومساء بدماء الأشقاء الفلسطينيين وهى تسيل شلالات، وتتقطع قلوبنا لمشاهد تناثر أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، وكأنها غبار، وجيوش الدول الكبرى تتحرك لترابض على سواحل غزة دعما وحماية للكيان المحتل، فى أسوأ مذبحة للضمير الإنسانى العالمى، وأقذر عملية دفن لقيم أوروبا وأمريكا، الأخلاقية، فى مقابر النسيان، ستدفع إرثهم من عدم الثقة فى مواقفهم مستقبلا، واندثار المصداقية فى تبنيهم أى قضية متعلقة بقيم العدالة والمساواة والحرية وحقوق الإنسان!
وأمام العجز الكلى، حيال ما يحدث فى فلسطين، باستثناء الدور المصرى القوى والواضح على كل الأصعدة، كان يُمكن للقوة العربية المشتركة، حال إقرارها منذ 9 سنوات، أن تكون رقما بارزا فى معادلة توازن القوة، وأن تلعب دورا بارزا فى الردع والقدرة على إدخال المساعدات والمعونات غزة، فهناك فارق بين جيش عربى موحد، ورمز إرادة أمة بأكملها، وبين جيش معبر عن إرادة دولة منفردة!
الحقيقة الواضحة دون لبس، أن مصر دائما المبادرة بالأفكار والأطروحات المتماهية مع الواقع، لتصب فى صالح الأمة، وتعظيم قدراتها وحفظ مقدراتها، وصيانة أمنها القومى ضد كل عابث أو طامع، بينما الآخرون لا هَم لهم سوى وأد هذه الأفكار، وتقليص الأفعال، وترديد الشعارات، والخطب الحنجورية التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.
وفى النهاية ومن خلال الأحداث والوقائع الدامغة، فإن التاريخ دائما ينحاز للحق والعدل، وينصف مصر، ويُعلى من شأن مواقفها، وقدرات قيادتها على استشراف المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة