كان الشاعر السوري نزار قباني يقيم في جنيف أثناء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب يوم 13 أكتوبر 1985، وأحدث الخبر دويا هائلا، غير أن هناك من اتهم الجائزة بتحيزها في ذلك، ويفند نجيب محفوظ تلك الاتهامات في مذكراته التي أملاها للناقد رجاء النقاش، لكنه يصف القول بأنه "كان من الأولي أن يحصل شاعر عربي عليها بالموضوعية، علي أساس أن الشعر هو ديوان العرب وأكثر أصالة من الفنون الأدبية الأخرى بما فيها الرواية".
كان "نزار" وقتئذ من أهم الشعراء العرب، لكنه لم ينظر إلي فوز نجيب محفوظ بعين الاتهام والانحياز، والشاهد خطابه الذي كتبه وأرسله من جنيف إلي نجيب في 5 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1988 ونشرته الأهرام يوم 7 نوفمبر 1988 تحت عنوان "رسالة حب إلي نجيب محفوظ"
يقول نزار في رسالته:"فوز الروائى الكبير نجيب محفوظ بجائزة نوبل هو أول فرحة ثقافية فى حياة العرب بعدما كسرت السياسة آمالهم وأجهضت أحلامهم، ورمتهم فى بئر من الأحزان، الثقافة فرح لأنها تجمل الحياة، وتجعل البحر أكثر زرقة والنجوم أكثر عددا والسماء أكثر اتساعا، والإنسان أكثر رقيا، أما السياسة فتقطع كل الأشجار وتلوث كل الأنهار وتعتقل كل العصافير، وتكذب على الناس فتقنعهم أن الوزراء كانوا فى الأصل ملائكة لايأكلون ولايشربون ولايقربون النساء ثم غيروا عاداتهم بعدما صدرت مراسيم تعيينهم، كما تقنعهم أن الحصول على مقعد فى الأتوبيس يعادل الحصول على مقعد فى الجنة، وأن رغيف الخبز الأسمر الذى يأكلونه، كان فى الأصل دينارا ذهبيا فى عصر الخلفاء الراشدين.
جائزة نوبل هى التى ربحت نجيب محفوظ لا العكس، وهذا يدفعنى إلى التساؤل: من هو الأهم؟ من أخذ الجائزة؟ أم من أعطاها؟ الجائزة هى رقعة من الورق موضوعة داخل برواز وملفوفة بشريط حريرى..وهذا كل شىء، أما الذى حصل على الجائزة فهو غابة مشتعلة من الأنسجة المحترقة والشرايين المفتوحة والأعصاب المكهربة والقلق والغضب والتوتر العالى، والجنون، ولايمكن لأحد أن يطفىء هذه الغابة المشتعلة أو يضع الجنون فى برواز!
هذه الليلة نحتفل بزواج واحد من كبار مبدعينا، العريس فتى أسمر من مصر اسمه نجيب محفوظ، والعروس فتاة سويدية شقراء لاتعرف من اللغة العربية إلا كلمة «وحشتنى»، ومطلع أغنية «يا نخلتين فى العلالى بلحهم دوا»، ومع هذا حصلت القسمة والنصيب، وبدأت الزوجة السويدية تتأقلم مع آداب تعاطى الشيشة فى «مقهى الفيشاوى»، وصارت تعرف كيف تحسم 90٪ من الأسعار التى يطلبها أصحاب الدكاكين فى خان الخليلى!
نجيب محفوظ ملك من ملوك الرواية العربية الحديثة، ملك متواضع وبسيط وديمقراطى وشعبى وطيب القلب ومثابر ومنظم ومنضبط كساعة أوميجا، يكره النجومية والملابس المسرحية، ولو استطاع أن يذهب إلى «ستوكهولم» ليتسلم جائزة نوبل وهو فى البيجاما لذهب لا استعراضية ولاعنطظة ولابوزات مدروسة، إنه يرتبك أمام فلاشات المصورين كما يرتبك العصفور أمام صياديه.
نجيب محفوظ واحد من «أولاد حارتنا» يقيم صداقات يومية مع بائع الجرائد، وبائع الحليب، وصبى المكوجى ويقف بالطابور أمام بائع الفول، ولديه بدلتا «سفارى» واحدة ينام فيها والثانية يستحم فيها، نجيب محفوظ تلميذ مجتهد يكتب فروضه المدرسية بانتظام، ناسك يؤدى الصلوات فى أوقاتها، مجاور يجلس تحت أعمدة الأزهر، قديس يلبس جلابية بيضاء ويتجول فى الشوارع الخلفية ويسجل على دفتر صغير آهات المتأوهين، وأنين المسحوقين ودموع المعذبين فى الأرض.
نجيب محفوظ ملتزم بالوجع الإنسانى، ملتزم بقضايا البشر، لابقضايا الملائكة، نجيب محفوظ راهب من رهبان الكتابة والأدب العربى بحاجة إلى رهبان ونساك ومتعبدين لا إلى عصابات أدبية وميليشيات ثقافية وقاطعى الطريق.وفى نظرى أن أخلاق «نجيب محفوظ» ونقاءه الروحى وطهارته الداخلية والخارجية هى التى ربحت جائزة نوبل قبل أن تربحها أعماله الأدبية!
يا صديقى نجيب محفوظ: مبروك عليك جائزة نوبل التى ربحتها بعرق جبينك واحتراق أعصابك وصهيلك الشجاع على الورق على مدى خمسين عاما ولم تربحها على طاولة الروليت أومن سمسرة السلاح!
كما أود أن أطمئن السيدة العزيزة زوجتك أن الجائزة المالية لها وحدها، فالمرأة التى تحتمل كاتبا ينام مع ورقة الكتابة ويصحو معها وتهيئ له المناخ الحضارى والنفسى لينتج ما أنتج من روائع وتسمح له أن ينجب من المرأة الثانية - التى هى الرواية - خمسين طفلا جميلا هى بلا شك قديسة من القديسات وفدائية من الفدائيات.
فيا من زرعت مآذن سيدنا الحسين على ضفاف بحر الشمال، ويا من جعلت حمائم الأزهر تحط على أبراج الكاتدرائيات السويدية، ويا من جعلت «الملاية اللف» زيا قوميا لعام 1988 ترتديه جميع النساء فى العالم، كم نحن فخورون بك.. كم نحن كبيرون بك
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة