المعضلة الكبرى التي واجهت دول منطقة الشرق الأوسط، خلال العقد الماضي، إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، تمثلت في حالة من الانقسام متعدد الأبعاد، تجسدت في أحد جوانبها في الانقسام الداخلي بين الشعوب والحكومات، بالإضافة إلى تشرذم الشعوب بين فريق من المواطنين يبدو غاضبا بسبب الفساد وغياب الإصلاح، وفريق آخر يرفع شعار الأمن والاستقرار، بينما تفاقم الانقسام، مع ظهور فريق ثالث، وهو الميليشيات المسلحة، التي باتت تهدد أمن الدول ووحدتها، في حين كان الصراع بين القوى الإقليمية، بعدا آخر من الانقسام، الذي ساهم في مزيد من الأزمات، بسبب محاولات بعض القوى التدخل في شؤون الدول الأخرى والسيطرة عليها، مما زاد من وتيرة الحروب "بالوكالة"، مما وضع الإقليم كله على حافة الهاوية.
الانقسام الداخلي، ومن ورائه حالة التبعثر الإقليمي، وضعت تهديدات مباشرة لوحدة دول قائمة بالفعل، لديها من التاريخ والصلابة والتماسك، ما يؤهلها للصمود، بل ويساهم في تعزيز قدرة الدول الأخرى، على المواجهة، وهو ما بدا بوضوح في النموذج المصري، والذي تخلى فيه الفريقان الأوليان (الإصلاح والاستقرار)، عن انقسامهما، بل قررا تقديم الدعم لمؤسسات الدولة الصلبة، لمواجهة الميليشيات والإرهاب في الداخل، مما أثمر عن ثورة المصريين في 30 يونيو، والتي وضعت الدولة على طريق إعادة المسار، لتبدأ العمل جديا على تحقيق الاستقرار الأمني، ومن ثم البدء في عملية إصلاحية واسعة النطاق، وهو ما يعكس أولويات البناء، والتي تتجسد في إنهاء حالة الانقسام، ثم الاستقرار، لتأتي بعد ذلك عملية الإصلاح، والتي تتسم بحالة من التدرج النسبي، بينما يبقى العامل الزمني مرهونا بالقدرة على تحقيق اختراقات كبيرة في مسألتي الوحدة والاستقرار.
بينما يبقى إنهاء الانقسام الإقليمي مرهونا بقدرة الدول على تحقيق العوامل سالفة الذكر في الداخل، والتي تمكنها من خلق فرص من شأنها تحقيق المزيد من التعاون مع خصومها من القوى الأخرى، فتتحول حالة الصراع إلى منافسة، أو بالأحرى ما أسميته في مقال سابق بـ"الشراكة التنافسية"، التي من شأنها تخفيف حدة المنافسة، عبر التركيز على المصالح المشتركة، فتتحقق حالة من "الإصلاح" الأوسع نطاقا، يرتبط بالإقليم بأسره.
وهنا نجد أن التهديد الأبرز الذي واجه منطقة الشرق الأوسط بأسرها، يتجسد في تفاقم الانقسام واتساعه، سواء على مستوى الداخل، في كل دولة، أو البيني (بين دول الإقليم)، مما ساهم في زيادة وتيرة الصراعات، إلى الحد الذي هدد وحدة الدول، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع القضايا الرئيسية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، بسبب ما يواجه الدول الرئيسية من تهديدات تبدو وجودية، بينما كان المدخل الرئيسي للحل متجسدا في تحقيق وحدة الداخل، ثم البناء على ذلك، فيما يتعلق بتحقيق الاستقرار الأمني، ثم الإصلاح الداخلي، وصولا إلى احتواء الصراعات الإقليمية، ما يرتبط بها من تهديدات للمنطقة بأسرها.
والحديث عن القضية الفلسطينية، في ظل المرحلة الراهنة، والتي تشهد عدوانا وحشيا من قوات الاحتلال الإسرائيلي، على قطاع غزة، يبدو مرتبطا بنفس الدائرة سالفة الذكر، فالإنجاز مرتبط بالوحدة في الداخل، باعتباره الخطوة الأولى، لتحقيق اختراق ملموس فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في تأسيس دولتهم، حيث يمكن البناء عليه بعد ذلك من خلال تعزيز دور السلطة الفلسطينية وتقوية موقفها التفاوضي، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، بينما تتوحد المواقف الإقليمية على دعمها على نفس الأساس، مما يساهم في تعزيز القضية برمتها أمام المجتمع الدولي.
ولعل الجدير بالملاحظة أن الانقسام الفلسطيني، يمثل في جوهره أحد "إرهاصات" الربيع العربي، حيث استبقه بحوالي 4 سنوات، بينما يمثل جزءً لا يتجزأ من بقاياه، في ظل بقاءه عصيا على التغيير، فأصبح مدخلا لانهيار القضية، في الداخل، بينما بابا مفتوحا لـ"إعادة تدوير" الفوضى على المستوى الإقليمي، وهو ما بدا في دعوات التهجير، والتي تمثل محاولة لتحقيق الهدفين بضربة واحدة.
فلو نظرنا إلى الموقف الدولي من الأوضاع الراهنة في غزة، وإن كان يتسم بقدر كبير من الانحياز والازدواجية، إلا أن حالة الانقسام، واستئثار بعض الفصائل بالقطاع، ساهم بصورة كبيرة في تعزيز ذريعة العدوان، وفتح الباب أمام مؤيديه للحديث عما أسموه بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، في مواجهة القائمين على القطاع، وليس السلطة، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك عبر الدعوات المشبوهة لإخلاء الأرض من أهلها، مما يساهم في تقويض الهدف المركزي للقضية، وهو تأسيس الدولة الفلسطينية المنشودة، والذي يمثل أساسا لحل الدولتين، وهو ما يعني أن الانقسام في الداخل الفلسطيني يمثل الخطر الحقيقي، على القضية، والتهديد الأكبر لها، بينما يبقى الذريعة لمواصلة الاعتداءات والانتهاكات من قبل الاحتلال إلى حد الوحشية، في حين أنه يقدم مبررات لمؤيديه من دول الغرب، لمباركة هذه الممارسات العدوانية والتغافل عما يتشدقون به من مبادئ حقوقية، طالما استخدموها كـ"عصا" سياسية في مواجهة المخالفين لهم.
وفي الواقع الانقسام يبقى معضلة فلسطين الرئيسية، التي تفوق فيما تمثله من تهديد على مستقبل القضية، تلك الاعتداءات الوحشية التي تشهدها غزة، والتي تجد تبريرها دوليا فيما آلت إليه الأمور من "هوة" عميقة، في الأهداف والممارسات، بين السلطة، والتي تمثل الدولة المنشودة من جانب، والفصائل من جانب آخر، وهو نفس الخطر الذي واجه دولا كبرى بالإقليم، وكاد أن يفقدها شخصيتها الدولية، رغم كونها قائمة بالفعل، وهو ما يعني أن الأمور تبدو أكثر خطورة على دولة مازالت تكافح للحصول على عضوية المجتمع الدولي، واعترافه، في ظل خطوات دبلوماسية هامة تتخذها السلطة للحصول على عضوية الأمم المتحدة، وكفاحها لتشخيص الوضع القانوني للاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، وهي الخطوات التي تباركها وتدعمها الدول العربية، والإسلامية والمنظمات العربية وفي القلب منها جامعة الدول العربية، إلا أن الدعم الإقليمي لن يكون ذات جدوى في ظل استمرار الانقسام.
وهنا يمكننا القول أن الوحدة الفلسطينية هي نقطة الانطلاق الحقيقية لتحقيق الاستقرار المستدام، وحشد الدعم الإقليمي لكيان موحد، من أجل تحقيق انتصارات أكثر استدامة، على الصعيدين الدبلوماسي والدولي، بينما في الوقت نفسه تمثل السبيل الوحيد لتجريد إسرائيل من شرعية اعتداءاتها وانتهاكاتها الوحشية بحق آلاف البشر في غزة وكافة الأراضي الفلسطينية في المستقبل، في الوقت الذي يمكن من خلاله تغيير بوصلة المجتمع الدولي نحو مزيد من التوازن، بعيدا عن انحيازه الصارخ لطرف دون الآخر، تحت ذريعة الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة