ربما كان الفيتو الذي استخدمته الولايات المتحدة، لتقويض قرار مجلس الأمن حول وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بمثابة حقا قانونيا، يكفله لها القانون الدولي على أساس ميثاق الأمم المتحدة، والذي مازال يمثل انعكاسا لمحدودية دائرة صناعة القرار العالمي، منذ تأسيس الأمم المتحدة، منذ الأربعينات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي لم يعد متوافقا مع معطيات الحقبة الراهنة، في ظل صعود قوى قادرة على مزاحمة واشنطن، على قمة العالم، وهو ما يثير مجددا الحاجة إلى الإصلاح داخل أروقة المنظمة الدولية، والتي وإن بدت مواقفها في أزمة غزة مختلفة، بالنظر إلى مواقف الأغلبية العظمى من الدول الأعضاء، والتي رفضت الدوران في فلك واشنطن، وموقف الأمين العام أنطونيو جوتيريش، الذي انتفض جراء ما يرتكب من انتهاكات، إلى حد استدعاء المادة 99 من الميثاق لأول مرة منذ توليه منصبه، والتي تنص على أحقيته في تنبيه مجلس الأمن إلى أي مسألة يراها تهديدا للسلم والأمن الدوليين، ولكن يبقى الميثاق نفسه عائقا أمام تحقيق العدالة الدولية في اللحظة الراهنة.
ولكن بعيدا عن الميثاق وديباجته وبنوده، فإن الفيتو الأمريكي تجاوز مجرد كونه مؤشرا لحالة الانحياز الصارخ من قبل الولايات المتحدة، لإسرائيل، وبمثابة كونه قبولا رسميا للانتهاكات التي ترتكب، وبالتالي سقوط "قناع" الإنسانية، إلى مؤشر جديد للتحول الكبير في الدور الذي تلعبه واشنطن، من الضامن الرئيسي لتحقيق السلم والأمن الدوليين، إلى الدعم المطلق وغير المحدود للفوضى في الشرق الأوسط، خاصة بعد خروجها نسبيا من المنطقة، في أعقاب سلسلة من الانسحابات المتواترة، سواء من سوريا أو العراق، والتي تمثل مراكز رئيسية للأزمات، خلال العقد الماضي، وهو ما فتح المجال أمام قوى دولية جديدة للدخول على الخط الإقليمي، وعلى رأسها روسيا والصين، وهو ما بدا بوضوح في دور موسكو في الحرب على الإرهاب في دمشق، وصعود بكين، كقوى يمكنها الإنجاز في المنطقة المشتعلة، عبر التعاون مع دولها الرئيسية، وهو ما تجلى بوضوح في دورها كوسيط بين السعودية وإيران ونجاحها في إنهاء صراع دام لعقود طويلة من الزمن.
إلا أن واقع الإقليم لا يبدو مرهونا بالقوى الدولية الكبرى، والتي تتسم العلاقات فيما بينها ببزوغ الحالة الصراعية، على حساب السلم والأمن الدوليين، وإنما بات مرتبطا في جزء كبير منه بقوة القوى الإقليمية المؤثرة، وعلى رأسها مصر، والتي نجحت عبر العديد من المسارات في الانتصار للقضية الفلسطينية، ربما أبرزها تقديم غطاء من الحماية للشرعية الدولية التي سعى الاحتلال لتقويضها، عبر دعوات التهجير وما تحمله في طياتها من تهديد للدولة الفلسطينية، وهو ما اعتبره الرئيس عبد الفتاح السيسي "خط أحمر"، ناهيك عن قدرتها على فرض رؤيتها فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، رغم أنف الاحتلال، بالإضافة إلى نجاحها في عقد هدنة دامت لحوالي أسبوع كامل، وهو ما يعكس نفوذا دوليا يمكنه التأثير على مراكز صناعة القرار الدولي، من الناحية العملية، وهو ما يتجاوز في تأثيره القرارات الأممية المحكومة بمواثيق عاف عليها الزمن.
جانب آخر من الرؤية المصرية، يتجسد في استعراض قدراتها في الداخل، على مجابهة التحديات المحيطة بها، وهو ما يبدو في القرار التاريخي بعقد الانتخابات الرئاسية، في لحظة تبدو فارقة في تاريخ المنطقة بأسرها، وهو ما يعكس حالة من الثقة اللامتناهية في قدرتها على فرض كلمتها، في الداخل وفي محيطها الإقليمي، بينما قدمت رسالة للعالم، مفادها أن ثمة حالة من الأمن الاجتماعي، والثقة الشعبية التي تشهدها مصر، رغم ما يحيط بها، وهو ما ينعكس بجلاء في انعقاد العرس الديمقراطي.
وبين "الخط الأحمر" المصري، والفيتو الأمريكي، ثمة العديد من المفارقات، أبرزها اختلاف المعيار الأمني، بين واشنطن التي تبدو رؤيتها قاصرة على دعم حليفتها العبرية، على حساب ملايين البشر، بينما يحمل "حماية" ثلاثية الأبعاد في رؤية القاهرة، تمتد من الداخل المصري، مرورا بالقضية الفلسطينية، وفي القلب منها غزة وسكانها، وحتى الإقليم بأسره، في ظل محاولات واضحة وصريحة لتصدير الفوضى إلى المنطقة مجددا، بعد سنوات من الهدوء النسبي، في أعقاب ما يسمى بـ"الربيع العربي".
وهنا يمكننا القول بأن الدولة المصرية أثبتت أن الفيتو الأمريكي ومن وراءه المواثيق الدولية التي عاف عليها الزمن، وإن كانت مازالت تحمل قدرا من التأثير، إلا أنه يمكن التخفيف من تداعياتها عبر الاستقرار والأمن سواء في القوى الإقليمية المؤثرة التي يمكنها المواجهة من جانب، بالإضافة إلى قدرتها على إضفاء الحماية على المنطقة بأسرها، من جانب آخر.