يصيرُ الرابحُ رئيسًا، أمَّا الخاسرُ فيخرج من السباق ببطاقةٍ معنوية. طبيعةُ الانتخابات الرئاسية فى البيئات الناشئة سياسيًّا أنها تُوزِّع المكاسب على الجميع؛ فيذهب شخصٌ إلى القصر، ويُمسى منافسوه رموزًا ذوى وضعيّةٍ مُميَّزة. فى المُمارسة الجادة يُمكن أن يُصرَف الرصيدُ المُتحصَّل عليه لصالح المجال العام والتجربة الديمقراطية، وفى مناخات الاستقطاب والانحياز؛ قد يُترجَم شِقاقًا ومُناكفاتٍ وتعطيلاً للمراكب السيَّارة. ربّما لهذا كان الإخوان يُعلِّقون آمالاً عريضةً على أحد راغبى الترشُّح؛ رغم علمهم بهشاشته وانعدام حظوظه تقريبًا. ما كان يُرَاد من الاصطفاف خلفه أن يُتاح لهم ستارٌ من الرمزية التى تُحقِّقها الصناديق، وأن يكتمل نَحت «حصان طروادة» ببطنٍ عظيمة، تتَّسع لفلول التنظيم وما فى جيوبهم من أجنداتٍ وأموالٍ ونوايا مُضمَرة.
فى التجربة التعدُّدية الأُولى، خاض أحد المُنشقِّين على حزب الوفد منافسةَ الرئاسة 2005، وضُبِط بأوراقٍ مُزوَّرةٍ زجَّت به فى السجن، وما زال يتعيَّش من صفة «المُرشَّح الرئاسى السابق»، رغم كلِّ ما افتُضِح من مُمارساته، وبعدما آلت حالُه إلى الارتزاق من الإخوان والعمالة لدولٍ وأجهزة شتّى.. لقد أرادوا إعادة إنتاج التجربة تحت لافتةٍ مُغايرة، وكنَّا قاب قوسين منها؛ لكن المحاولة أخفقت فى الترشُّح ولم تُخفق فى تُهمة التزوير. والمُفارقة أن الوكيلين الشابين/ القديم والجديد، التقيا فى عاصمةٍ عربية قبل شهور؛ كما لو أن الأمر مُجرَّد تكرارٍ عقيم لملهاةٍ عتيقة، وكأنهما كانا فى مراسم «تسليم واستلام» لصندوق الأُصوليَّة الذى تزيَّن بالليبرالية مرَّةً، وتخفَّى وراء القومية مرّات.
ذبلت ورقةُ الجماعة الإرهابية؛ لكنها لم تسقط بعد. وعندما فتَّشت عن غصنٍ يُجدِّد اخضرارَها ذهبت إلى الذين جرَّبتهم سابقًا. كانت انتخابات البرلمان 2011 مسخرةً فى تحالفاتها؛ إذ التقى الناصريون بالإخوان رغم التناقضات المبدئية ورواسب الماضى المُرهقة. تناسى الأوَّلون أنهم حالوا اغتيال أبيهم الروحى ورأس مشروعهم الاجتماعى؛ بل اعتذر قائدُهم عمَّا اعتبره تجاوزًا بحقِّهم فى الستينيات، أمَّا الجماعة فقد قفزت على حاجز الضغينة والثأر؛ وحملت الخصوم القدامى فى أحضانها إلى قُبَّة التشريع. التهافُت فى الناحيتين يُقلِق بشأن المستقبل، وقد صار كلٌّ منهما قابلاً لأن يكون مطيَّةَ الآخر. وعلى شرط التعالُق والحياة الطفيلية بينهما؛ لم يكن غريبًا أن يجتمعا على جثَّة فريد زهران مثلاً: عروسة الماريونت الجديدة زايدت عليه، والقديمة عادت لحرفتها وزوَّرت ورقةً للطعن فى حالته الجنائية. البيئةُ التى يلتقى فيها النموذجان، قادرةٌ على إنتاج ثنائيّات بديلة بالخفَّة نفسها. ولعلَّ من أكبر مكاسب الاستحقاق الرئاسى الجديد؛ أنه لم يفتح ثغرةً لرياضة الابتذال والسخف التى يُحبّها فريقٌ بتلك التركيبة المُشوَّهة.
من محاسن الانتخابات التى يتدفَّق عليها الناخبون الآن، وليومين مُقبلين؛ أنها تُدَار فى حيِّز خالٍ من تدخُّلات الإرهابيين وصبيانهم. فالمُرشَّحون جميعًا من مجالٍ مُفارق لهم فى الأيديولوجيا والمُعتقَد الوطنى: السيسى كان فاعلاً عضويًّا فى مشهد 30 يونيو وشاهد عيانٍ على سفالة التنظيم، والمصرى الديمقراطى شريكٌ فى الثورة، والشعب الجمهورى ناشئٌ عنها، أمَّا «الوفد» فقد جرَّب التحالف مع الإخوان واكتوى بنارهم فى الثمانينيات. الخبراتُ العملية تبنى جدارًا عاليًا للقطيعة، وقد تجلَّى موقفٌ مُوحَّد فى خطابات الحملات الأربع، لا يُثير أصلاً سؤال العودة الإخوانية للمشهد، ولا يقبل بمن يثيرونه أو يتصالحون مع وضعه على الطاولة.
هكذا بعدما انقطعت فُرصة الاستفادة من عنوان «المُرشَّح الرئاسى»، تُغلَق أبواب التفلُّت إلى المجال العام من مزاريب الانتخابات. فلا أحدَ من المُتنافسين يُراهن على التنظيم أو ينتظر مُلاقاته عند الصندوق، ولو تطوَّع الأخير بحشد ما تبقَّى من قواعده الهزيلة لصالح أحد المُرشَّحين؛ فليس من المُنتظَر أن يُسجِّل عليه ديونًا واجبةَ السداد، أو يستحصل منفعةً من حزبه ولا فى المجال العام. وعلى تلك الصيغة تنعدم فُرص الاستثمار فى المشهد، وتتضاءل فاعليّة دَقّ الأسافين؛ بعدما أبدى صقور الجماعة وقنواتهم حماسةً سابقةً للجولة الرئاسية؛ وقتما كانوا يُراهنون على مُرشَّحٍ مُحتمل، يُمكن أن يلعبوا من خلاله بورقةٍ أُصوليّةٍ تُغلِّفها خطابيّة قوميَّة ركيكةٌ وزاعقة.
المُراد من كلِّ ما سبق؛ أنّ ثمّة ثوابت ومُشتركات تجمع المُتسابقين على المنصب التنفيذى الأرفع. مسألةُ الموقف المبدئى الصلب من الرجعية الدينية ورقةٌ فى الملف، ويُمكن استكشاف أوراقٍ أُخرى فى موضوعات الأمن القومى والسياسة الخارجية، وفى أُمورٍ تخصّ فلسفة التنمية والعدالة الاجتماعية والاستثمار والخدمات. وإن كان مُقتضى المُنافسة أن يفوز واحدٌ من أربعة؛ فإنَّ نقاط الالتقاء تسمح بأن تكون النتيجة بدايةً لورشةٍ وطنية مُوسَّعة، لا نهايةً لطريق يتصوَّره البعضُ محكومًا بمنطق الهيمنة والإلغاء فقط. والمعنى أن رمزيَّة المُرشَّح الرئاسى، والروافع الحزبية التى يستند إليها ثلاثةٌ من المعروضين على إرادة الجمهور، بإمكانها أن تكون جسرًا دائمًا بين الفائز والخاسرين؛ كأن تتشكَّل صيغةٌ جامعة للحملات وأوراقها، أو تصبّ حصيلةُ التجربة فى قنوات «الحوار الوطنى»، وقد رحَّب الرئيس السيسى سابقًا بأن يكون فعَّاليةً دائمة.
الانتخاباتُ خطوةٌ أُولى؛ والبديهى أن الأحزاب تخوضها بمنطق الوسيلة لا الغاية، ويتعيَّن أن تنطلق منها لتبنى مسارًا أكفأ فى الاتصال بالناس، وترفيع حضورها فى بِنية النظام ومُؤسَّساته. وعليه فإن مُشتركات الحملات الرئاسية وثوابتها يصحّ أن تكون قاعدةً للعمل فى المرحلة المقبلة؛ سواء مع الفائز بغرض إنفاذ الأفكار والمُقترحات الجادة بالأدوات التنفيذية، أو فى الاستحقاقات النيابية؛ لإنجازها تحت عباءة الرقابة والتشريع. والفاعليَّة فى ذلك قد تتطلَّب التغاضى عن نقاط الاختلاف مُؤقَّتًا، وأن تنضُج النظرةُ لترى هذا السلوك فى نطاق البراجماتية لا التنازل. أى أن يخرج الرابح ووُصفاؤه الثلاثة ببرنامجٍ واحد، وأن يتمسَّك به حاملو صِفة «المُرشَّح السابق» ويتشدَّدوا فى تطبيقه، بأكثر ممَّا يعتنقُه ويسير إليه الرئيس نفسه.
لعلَّ المثال الأوضح للفكرة ما طرحته «تنسيقية شباب الأحزاب». فقد نشَّطت مطبخًا سياسيًّا على مدى أسابيع، واستخلصت من عشرات اللقاءات مع أحزاب ونقابات وشخصيات عامة وكيانات مدنيّة، برنامجًا يصلح للتوافق والعمل المشترك. النسخةُ التى حملت عنوان «ماذا نُريد من الرئيس القادم» تخلَّصت من أعباء الأيديولوجيا واصطفافات الروابط الصغيرة، وطرحت تصوُّرًا من ثلاثة محاور: سياسية واقتصادية ومجتمعية. واتَّسعت الرؤيةُ من الحزبية والتعدُّدية وتفعيل المجال العام، إلى الاستثمار والصناعة والسياحة والعدالة الضريبية، دون إغفالٍ لأمور الثقافة والهويَّة وبناء الأُسرة وتنظيم شؤونها. والقيمةُ أن تلك المُقاربة تنبع من كيانٍ يتمثَّل فيه المُرشَّحون الأربعة، ويُمثِّل طيفًا عريضًا من التيَّارات الفكرية، وقد خلط رؤاه بحصيلة جولاتٍ نوعيّة ونقاشاتٍ بدأت من أهل الاختصاص فى المركز، وامتدَّت إلى أهل التجربة الحيَّة فى الأطراف والمحافظات الحدودية.
لو اتّخذنا الحوار الوطنى قاعدةً للمُقاربة، وقد وُلِد بمبادرةٍ رئاسية واكتسب زخمه بتفاعلٍ حزبى واسع؛ فإن المسألة الوطنية تبدو واضحةً ومحلَّ اتّفاق؛ فى مداها الراهن على الأقل. ثمّة التقاءٌ واسع على حاجتنا لتنشيط السياسة، وأولوية الخروج من الأزمة الاقتصادية، وصيانة الأمن القومى وسط غابةٍ من الحدود المُلتهبة. وما دامت القضايا فى نطاق الإجماع؛ فلا مانع من أن يكون برنامج العمل عليها إجماعيًّا أيضًا.. ما سِيْق فى ورقة «التنسيقية» يصلحُ لأن يكون الأساس الذى تُبنَى عليه مُعادلة التقارب وجَبْر التناقضات. يُمكن أن تعود طاولة الحوار لتُدير جدلاً جادًّا وعميقًا حول الرؤية، وترفدها بخُلاصات الأفكار والبرامج التى طُرِحَت فى الرئاسة أو تتداولها الأحزاب، ويُمكن أن يتبنَّاها المُرشَّحون الأربعةُ على حالها، أو بعد تعديلٍ وتطوير؛ ليتحوَّل التنافسُ فى المرحلة المُقبلة من النزاع فى بدائل جذريةٍ كاملة، يسعى كلُّ فريقٍ لإزاحة إحداها والبدء بغيرها من الصفر، إلى التنازع فى بديلٍ واحد، والاختصام فى كفاءة التطبيق وحجم الإنجاز؛ فيصير المُختلفون فريقًا واحدًا يتداولون مراكز الهجوم والدفاع، ويُمارسون الرقابة جميعًا على الآخر، وعلى أنفسهم أيضًا.
للوهلةِ الأُولى تبدو الفكرةُ رومانسيّةً؛ وقد يراها البعض تتصادم مع جوهر السياسة، وما فيها من تنافسٍ يسعى إلى الصدارة على حساب الخصوم. وفى الوقت نفسه يتَّفق الجميع على الطبيعة الاستثنائية للمرحلة، وأننا فى احتياجٍ لورشةِ بناءٍ تأسيسيَّة تنتج عنها مُمارسة أكثر نضجًا. الدولةُ فى خضم تحدِّيات مُركَّبة تتطلَّب تضافر كل الجهود، والأحزاب فى أغلبها هشَّةٌ وفى حالِ انحسار، وتحتاج لأن تحتمى من هشاشتها بالهياكل المُؤسَّسية الصلبة، والعمل مع المُنافسين الافتراضيين؛ بغرض أن يستقوى الجميع على الظروف الطارئة والموروثة. فالواقعيةُ تُوجِب أن تُخاض مُباراة الإصلاح على شَرط التساند والدعم المُتبادَل؛ فالسلطةُ تصلبُ أعواد الكيانات السياسية؛ لتكون ظهيرًا لها ولاعبًا مُؤثّرًا بجانبها، والحزبيِّون يُؤجّلون الخلافات الكُلّية لصالح الاشتغال على المُشتركات وضمان أن يربح الجميع؛ قبل الانتقال لمرحلةِ أن يطمعَ تيَّارٌ فى تعميم أجندته وأن يتسيَّد الساحة بصورةٍ فردية.. فيكون الهدف أن يستعيد القطار سرعته وعافيته، وبعدها يُمكن التسابق على المقاعد وترتيب القوى داخل العربات.
الانتخاباتُ الجارية محطَّة فى طريق التعافى. إنها إذ تُؤسِّس للشرعية السياسية فى السنوات الستِّ المُقبلة، تُرخِى غطاءها أيضًا على التيَّارات والكيانات المُنخرطة فيها؛ فتتحصَّل الفائدةُ للمُرشَّحين بالأصالة، ولبقيَّة الأحزاب انطلاقًا من تنشيط البيئة وضَخّ الدماء فى شرايين السياسة. من هنا يصيرُ الحشد امتحانًا لكلِّ الأطراف، وكثافةُ المشاركة مطلبًا ضروريًّا للسير إلى المحطَّات التالية. كلُّ صوتٍ فى صناديق الرئاسة طاقةٌ إضافية لمحرّكات التجربة، ورصيدٌ يصلح للتنافس عليه فى استحقاقات المُستقبل، والأهمّ أنه حصانة لمُخرجات السباق الراهن، وقد رُسِمَت معالمه ليكون مُعتركًا إصلاحيًّا يحتضن الجميع، ويسعى إلى التئام القوى الفاعلة فى بوتقةٍ واحدة، بدلاً من انقسامها وتشظِّيها القديم.
خرج مشهدُ اليوم الأوَّل جيّدًا للغاية، ويتبقَّى يومان من العمل. كلُّ التقارير تُشير لإقبالٍ مُرتفع، وحملات المُرشَّحين جميعًا امتدحت مسار العملية الانتخابية وإدارتها. مع مُلاحظة أن توزيع الكثافة على الأيام يُبدِّل فى المظهر ولا يُغيِّر الجوهر. سجَّلت انتخابات 2012 نحو 24 مليون صوت فى المُتوسِّط على يومين، والرقم نفسه أو أكثر منه فى 2014 و2018؛ لكنهما كانتا على ثلاثة أيام. والجولة الأحدث تمتدُّ من الأحد للثلاثاء؛ ما يعنى أن حشود اليوم تفوق سوابقها بمرّة ونصف على الأقل. الذين على الأرض أدرى بسيولة التدفُّق وحجمه، والذين فى مُعسكر العداء يطعنون إلى اليوم فى ملايين «30 يونيو» الحاشدة، ولن تتوقَّف سهامُهم عن استهداف لجان الاقتراع. أمَّا الساعون لتطوير الحياة السياسية من داخلها، وتوطيد دعائم الدولة على مُرتكزات الإصلاح والهويَّة الصافية؛ فسيتَّخذون من كلِّ استحقاقٍ انتخابى مُنطلَقًا إلى ما بعده، راصدين الواقع والآمال، ومُجتهدين فى تضييق الفجوة بينهما، بالعمل الدؤوب وحده، لا بالشقاق والدعايات الفجَّة.
قد يُعيد التاريخ نفسه فى اعتقاد البعض؛ إنّما السياسة لا تُكرِّر حوادثها. قطارُها يمضى إلى الأمام فقط، والذين يتخلَّفون عنه يظلّون فى أماكنهم، وتكتمل الرحلةُ من دونهم.. الاستحقاقُ الرئاسى يُضيف مِدماكًا إلى البناء الذى أسَّسته ثورةُ المصريين قبل عشر سنوات، وكلَّما ارتقى المعمار تنضجُ أفكار البعض وتتقزَّم أوهام غيرهم. ما رأيته فى اللجان التى مرَّرت عليها يُبشِّر بمشاركةٍ عالية، وما سمعته من آخرين يزيد ولا ينقص. ويبقى أن يستوعب الجميع عِبَر الماضى، ويستلهموا الدروس من الحاضر، ويتَّخذوا من انتخابات 2024 قاعدةً لفهمٍ مُغاير، تتولَّى فيه السياسةُ مهمَّةَ تقريب الرُّؤى ولَضْم الصفوف، ولا تكون مُعطِّلاً لبعض مُمارسيها عن قراءة الظرف واستيعاب التحوُّلات، والجرى بجانب الدولة بدلاً من التخلُّف بين زُمرة الذين يُعادونها، أو يُدمنون الحياةَ فى ماضٍ بليد.