عندما أرسى العالم مفهوم الديمقراطية، ارتبط في الأساس بالوصول إلى الحكم، بالعديد من الأدوات، أبرزها الأحزاب السياسية، وآلية الانتخابات، وهو ما يخلق حالة تنافسية ذات طابع صراعي، مما دفع إلى إضفاء بعض المبادئ لتخفيف الشراسة المهيمنة على المنافسة، منها حرية الرأي والتعبير، والحوار، ناهيك عن التركيز المتواتر على استخدام بعض الكلمات الرنانة، على غرار الحقوق المرتبطة بالفئات الضعيفة والمهمشة، والمرأة، والطفل، والتي تمثل في جوهرها الأساس الذي ارتكز عليه العهد العالمي لحقوق الإنسان، وكافة المواثيق الأخرى المرتبطة به، إلا أن تلك المحاولات لم تخفف إطلاقا من حدة الصراع السياسي، والذي يتجلى في أبهى صوره، في مناظرات شخصية، بين المتنافسين على مناصب القيادة العليا، والتي تصل أحيانا إلى حد السباب والتشاجر بين المرشحين، وهي المشاهد التي ربما حاول الغرب الترويج لها باعتبارها نموذج "الديمقراطية المطلقة"، بينما تخفف من حدتها عبر المصافحات والابتسامات الباهتة في نهاية المناظرة.
وبين شراسة الصراع على السلطة من جانب، ومحاولات التخفيف منها عبر مشاهد مفتعلة تهدف لتقديم صورة متحضرة للمنافسة السياسية، من جانب آخر، تصبح الديمقراطية هي بمثابة الغطاء الشرعي لحالة الصراع السياسي، وبديل مقبول للغاية لحالات عدم الاستقرار التي تنجم عنه، والتي تصل في بعض دول العالم الثالث، إلى حد الحروب الأهلية، طمعا في كراسي السلطة، عبر استخدام ما يسمى بـ"الحوار الديمقراطي"، والقائم على تأسيس الأحزاب السياسية، ومنحها الفرصة في المشاركة الفعالة، وتقديم أفكارها أمام المجتمع، حتى يتمكن المواطن من تحديد ما يناسبه من الرؤى المعروضة، عبر الإدلاء بصوته في صناديق الاقتراع، عندما يحين موعدها ليمنح شرعية محددة بمدة معينة لفئة بعينها (حزب سياسي) أو شخص يحمل رؤى مقبولة بالنسبة للأغلبية المجتمعية.
إلا أن مستقبل الديمقراطية بهذه الصورة يبدو محل شك كبير، في ظل تجاوز العديد من المعايير، في الغرب، ربما أبرزها تراجع الأحزاب ودورها، وهو ما يعكس وصول قادة بلا مرجعية حزبية أو لديهم أحزاب حديثة النشأة إلى سدة السلطة في عدة دول خلال السنوات الأخيرة، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ناهيك عن هيمنة الكاريزما السياسية لشخص بعينه ليتجاوز حزبه من حيث الشعبية، على غرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بينما لم تعد المناظرات تلقى القبول المطلوب من المتابعين، وهو ما يعكس حالة من الخلل التي انتابت المفهوم البراق، في ظل العديد من المتغيرات والمستجدات الدولية، دفعت إلى تغييرات كبيرة في البنية الشعبوية، والتي شهدت هي الأخرى اختلافا جذريا، في ظل احتجاجات سيطرت على المشاهد السياسية، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، للمطالبة باستقالة رأس السلطة، أو حتى عدم قبول نتائج الانتخابات، وهو ما بدا في صورة اقتحام الكونجرس الأمريكي من قبل أنصار ترامب لمنع الإعلان عن فوز الرئيس جو بايدن.
وهنا تصبح الحاجة الملحة إلى إعادة صياغة الآليات التي تدار بها العملية، حيث لم تعد الحاجة إلى "حوار" يخفف من شراسة الديمقراطية، في إطار "الحوار الديمقراطي"، وإنما باتت الحاجة إلى ما يمكننا تسميته بـ"الديمقراطية الحوارية"، والتي تمثل فيه الديمقراطية، في إطار مبادئها القائمة على احترام الحقوق والواجبات، مدخلا لـ"حوار" أوسع وأشمل بين كافة الأطراف السياسية، في إطار ربما لم يخلو من المنافسة، ولكنها تحمل في طياتها حالة "تشاركية" من شأنها تخفيف حدة الصراع.
"الديمقراطية الحوارية" تتجلى بوضوح في المشهد الذي أرسته الانتخابات الرئاسية، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها عودة الأحزاب السياسية بقوة إلى ساحة المنافسة، وهو ما يمثل "ثمرة" مهمة للحوار الوطني، الذي دشنته الدولة، بينما لم تشهد العملية الانتخابية أية محاولات للتشكيك، أو الإساءة من قبل أي من المرشحين، تجاه الآخر، في حين أنه المشهد برمته، وبغض النظر عن الفائز بالمنصب، يمثل إثراء للحياة السياسية المصرية، عبر عودة أحزاب عريقة مؤثرة، إلى الصدارة، على غرار حزب الوفد، أو بزوغ أحزاب حديثة العهد نسبيا، على غرار الحزب الديمقراطي الاجتماعي أو حزب الشعب الجمهوري، وهو ما يساهم في تعزيز "الشراكة" بين أطراف المعادلة السياسية في مصر، عبر إثراء دورهم وتفعيل رؤيتهم للتحديات القائمة وكيفية التعامل معها، في إطار "حوار" شامل ومستمر.
وفي الواقع أن حالة "الديمقراطية الحوارية" التي أرستها الانتخابات الرئاسية في مصر لم تقتصر في جوهرها على السياسة، في إطار حزبي، على غرار "الحوار الديمقراطي"، وإنما امتدت إلى كافة الفئات المجتمعية، وهو ما يبدو في ملاحظة رصدتها، بحكم معايشتي للانتخابات السابقة، والتي شهدت صراعات متنوعة، ربما أبرزها ما يسمى بـ"صراع الأجيال"، وهو ما يبدو بوضوح في أعقاب "الربيع العربي"، في ضوء الانقسامات التي طالت البيت الواحد بسبب تنافر الأفكار السياسية، بين شباب ثائر يرغب في التغيير الشامل والكامل في لحظة واحدة، وشخوص أكثر نضجا أدركوا أن الاستقرار والأمن هما السبيل الوحيد لتحقيق أي إصلاح، وأن تدرجية العملية الإصلاحية هي النهج الذي يمكن تطبيقه عمليا بعيدا عن أوهام لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وهو الأمر الذي وضعته الدولة المصرية كأولوية قصوى في السنوات الماضية، عبر تفعيل دور الشباب وإشراكهم في دوائر صناعة القرار، للاستفادة من حماستهم، من جانب، وإثراء خبراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي تدار بها الأمور، لنجد في نهاية المطاف شباب مشارك في العملية الانتخابية، مقدما الدعم للمسنين حتى يشاركون بأصواتهم، بعدما كانوا يوما ما ناقمين على تلك الأصوات بسبب اختلاف الرؤى.
الأمر نفسه ينطبق على المرأة، التي عايشت صراعا مجتمعيا، مع أفكار رجعية هيمنت على المجتمع لسنوات، لتجد نفسها أحد أهم مراكز الاهتمام للدولة المصرية في السنوات الأخيرة، وترتقي إلى أعلى المناصب، وتلقى الدعم والتشجيع، باعتبارها عضو فاعل في المجتمع، لتجد نفسها مشاركا إلى جانب الرجل، في إطار حواري للإعراب عن رأيها، وهو ما يتجسد في جزء منه خلال الانتخابات الرئاسية.
وهنا يمكننا القول بأن نهج "الديمقراطية الحوارية" امتد إلى قطاعات أخرى عديدة، بدءً من الفئات المجتمعية الضعيفة، مرورا بذوي الهمم، وحتى المصريين في الخارج، ليجد الجميع نفسه داخل بوتقة وطنية واحدة، تقوم في الأساس على الحوار بين كافة أطياف المجتمع، سواء سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا في انعكاس صريح لقدرة كبيرة على مواكبة تغييرات ومستجدات تشهدها الحالة الديمقراطية في العالم.