دروس الواقع أكثر عمقا وتأثيرا من الدروس النظرية الحالمة والحبيسة بين أغلفة الكتب، وفوق أرفف المكتبات مهما كانت روعة ديكورها، وجمال تنسيقها وعبقرية ألوانها، وهو التأكيد العلمى أيضا الذى يذهب إلى أن الدراسة التى لا تجد طريقها للتطبيق العملى، وتعتمد فقط على النظرى، تظل دون جدوى، لأنه وباختصار شديد، العلم هو تطبيق المعرفة ونقلها للبيئة المادية وحل المشاكل الحياتية.
العلوم السياسية فى تقديرى، إذا تقاطعت مع التطبيق العملى على الأرض، صارت نظريات لا تساهم فى شرح وقائع أو أحداث، ولا تعمل على حل المشكلات، ولن تتوصل لتفسيرات صحيحة، وبتطبيق هذا المفهوم العلمى على الانتخابات الرئاسية فى مجملها العام، وأيامها الستة، ثلاثة فى الخارج، وثلاثة فى الداخل، يتبين أن الواقع بعيد كل البعد عن النظريات والخيال والرومانسية السياسية الحالمة.
الانتخابات الرئاسية 2024 والتى تنافس فيها 4 مرشحين، جاءت فى ظل رياح أحداث سياسية إقليمية ودولية عاتية، وحالة من حالات الترقب الشديد، ورهانات تعلقها جماعات وتنظيمات وكيانات يطربها الفشل ويزعجها النجاح، كانت تنتظر اللحظة التى تمكنها من إقامات سرادقات الأفراح وليالى الملاح لعزوف المصريين عن الذهاب لصناديق الاقتراع، ثم استثماره وتوظيفه فى قلب الحقائق والتشكيك فى شرعية الانتخابات برمتها، ومن ثم فى الفائز.
ومع بدء دوران عجلة الانتخابات فى الخارج، أصيبت تنظيمات التشفى بالصدمة من حجم الإقبال وإصرار المصريين على الخروج والذهاب للتصويت بأعداد كبيرة، متحدين الطقس السيئ، فلم تزعجهم سرعة رياح، ولا عواصف ثلجية، تعيق مسيرتهم الطويلة فى التنقل بين المدن والولايات؛ ورغم الصدمة من الإقبال إلا أنهم حاولوا استرضاء أنفسهم بِعِلة أن الإقبال فى الخارج ليس مقياسا واقعيا يمكن البناء عليه، فالداخل مختلف، ويعج بتفاصيل مغايرة!
وجاء يوم الأحد، العاشر من ديسمبر الجارى، وهو اليوم الأول لبدء التصويت فى الانتخابات الرئاسية داخل البلاد، فكان المشهد الذى أصاب التنظيمات والجماعات والكيانات المترقبة والجاهزة لالتقاط الصور والفيديوهات للجان الخالية، بالصدمة المصحوبة بحالة من الهذيان، واللوثة العقلية، فالحشود كانت أكبر من استيعاب عقولهم، وقبل فتح أبواب اللجان بأكثر من ساعة، وأن الحشود ليست قاصرة على قرى أو مدن أو محافظات بعينها، وإنما فى كل بقعة تجرى فيها عملية التصويت رسميا.
مشهد الحشود كان أعلى من سقف خيال محلل سياسى حالم ويعيش فى مدينة فاضلة، وفاق قدرات كل كيانات الأشرار على التصديق ومحاولة تعكير الصفو وتشويه الحقيقة، حتى ولو بمحاولات بائسة يائسة، باللجوء للتصنيفات، بأن الحضور من كبار السن فقط، أو المرأة أو طبقة بعينها، ولكن المشهد كان يضم كل الأعمار والأطياف، فبجانب كبار السن كان يقف الشباب، وبجانب المرأة، كان ذوو الهمم لديهم إصرار عجيب على التصويت، والتأكيد على أن الإنجاز يفرض نفسه، فعلا وقولا، وأن طبيعة المرحلة تحتاج لرجال، وعدوا فأوفوا، وكانوا عند الموعد فى إدارة أزمات وأحداث لا يتعرض لها العالم إلا كل قرن من الزمان.
هذا الإقبال الكبير، درس من المصريين، عميق الأثر، ورسالة شديدة اللهجة والأهمية، للداخل والخارج، تقول بوضوح: «إن الذين راهنوا على عدم خروجنا للمشاركة فى الانتخابات الرئاسية غضبا من ارتفاع الأسعار، واهمون، لأن غلاء الأسعار أرخص من غلاوة قيمة وطننا مصر»، رسالة كتبها المصريون بمداد من الكبرياء والعزة والأنف، فقيمة الوطن الآمن المستقر الطامح نحو إيجاد مكان يليق به فى ركب الدول القوية المتقدمة، أعلى منزلة، يتوارى بعدها كل شىء.
المصريون وكما حيّروا العالم بحضارتهم وإعجاز بنائهم، ومدى ما وصلوا إليه مع علم شبيه بالمعجزات، مستمرون فى تصدير هذه الحيرة، فى تحطيم أكبر وأقوى مانع ترابى على الساحل الشرقى لقناة السويس، بطريقتهم الخاصة المتناقضة مع القنابل والديناميت، وأيضا فى الخروج العظيم فى 30 يونيو 2013 وفى 3 يوليو 2013، وفى صبره والتفافه حول راية وطنه، وتضحياته بأبنائه للتخلص من ورم العصر الخبيث جماعة الإخوان الإرهابية، ثم الخروج أيام 10 و11 و12 ديسمبر 2023، ليقول للعالم: نحن نلتف حول الدولة الوطنية، ولن نقبل بمخططات هادفة لاستقطاع ولو شبر من أراضينا، ونؤمن بالمشروع الوطنى التنموى، ولدينا إصرار لا تنال من عزيمته العواصف، لاكتماله وانطلاقته فى 2030.