سافر عدلى باشا يكن، رئيس الحكومة، على رأس وفد رسمى إلى لندن للتفاوض مع الحكومة الإنجليزية حول قضية استقلال مصر، وكان الخلاف على أشده بين عدلى باشا وسعد زغلول باشا، الذى كان يرى أنه الأحق برئاسة هذه المفاوضات، لأنه مفوض من الأمة، وأحدث هذا الخلاف انقساما شديدا بين المصريين ترجم نفسه فى مظاهرات واتهامات، وكان ما حدث فى سفر عدلى باشا إلى لندن نموذجا فى ذلك.
كان فخرى عبدالنور، أحد أقطاب الحركة الوطنية المؤيدة والقريبة من سعد زغلول، ويذكر فى مذكراته التى قدمها مصطفى أمين وحققها الدكتور يونان لبيب رزق، أن «الوفد» قرر إيفاد أحد كبار أنصاره إلى لندن، لتكليفه بمهمة التوضيح للرأى العام ما يدبر لمصر فى شكل استقلال مزيف، ووقع الاختيار على مكرم عبيد، لما عرف عنه من براعة سياسية وتمكن من اللغة الإنجليزية، وسافر بالفعل فى آواخر شهر يوليو 1921، وتعمد أعضاء الوفد كتمان نبأ سفره، خشية أن تعمد وزارة الداخلية منعه من السفر بسلطة الأحكام العرفية القائمة، ولما وصل إلى لندن، أعلنت سكرتارية الوفد المصرى فى يوم 3 أغسطس سنة 1921 أن «الأستاذ مكرم عبيد العضو فى الوفد المصرى سافر منذ بضعة أيام إلى أوروبا لأشغال تتعلق بالقضية المصرية وخصوصا فى إنجلترا».
يضيف «عبدالنور» أنه لم يكد الأستاذ مكرم يستقر فى لندن حتى شرع فى نشر دعاية ضخمة تعريفا للرأى العام البريطانى، فراسل كبريات الصحف الإنجليزية، وألف لجانا من الطلبة المصريين فى المدن والجامعات، وعقد اجتماعات عامة حضرها إنجليز ومصريون ليبينون لهم حقيقة الحال فى مصر، وندد بما تتخذه الوزارة القائمة «وزارة عدلى باشا يكن».
فشلت مفاوضات عدلى باشا فى إنجلترا، وعاد إلى مصر يوم 6 ديسمبر 1921، واستقبله الشعب أسوأ استقبال، وتقدم باستقالته إلى الملك فؤاد، وأمام ذلك رأى «الوفد» أن يعود مكرم عبيد هو الآخر ليقدم تقريرا بنشاطه فى الستة أشهر التى قضاها فى لندن، ويشيد «عبدالنور» بما فعله «عبيد» قائلا: «كان الأستاذ مكرم وقتئذ لا يتجاوز الثالثة والثلاثين عاما، وأتاحت له ثقافته الإنجليزية العميقة وتضلعه فى العلوم القانونية أن يراسل أمهات الصحف البريطانية، ويتصل بالكثير من أعضاء مجلس العموم البريطانى، ويؤثر تأثيرا مباشرا فى الرأى العام.
يذكر «عبدالنور» أن سعد باشا انتدبه مع مصطفى النحاس لاستقبال مكرم فى الإسكندرية يوم 16 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1921، ويصف «عبدالنور» مشهد الاستقبال قائلا: «كان الاستقبال رائعا إذ لم يستطع البوليس التغلب على حماسة الجماهير، التى تدفقت على الأرصفة، فلما نزل الأستاذ مكرم حيته تحية حارة، وفى فندق ماجستيك، أعد الطلبة مأدبة حافلة، وألقى مكرم خطبة سياسية بديعة، تحدث فيها عن الزعيم سعد زغلول وعظمته، وكان وهو يلقى خطابه يلعب بالمعانى والألفاظ لعب الخطيب المفوه، فيأخذ بمجامع القلوب والآذان، ويؤثر فى السامعين أيما تأثير.
يضيف «عبدالنور» أن الخطبة كشفت عن جانب كبير غير معلوم للناس فى مكرم عبيد، وهو مقدرته الخطابية الفريدة، ومهارته فى صياغة المعانى الجزلة فى الألفاظ الجميلة والأسلوب الفريد، وتحليله للمواقف السياسية تحليلا منطقيا متماسكا، وامتلاكه لناصية البيان وإثارة العواطف بحسن إلقائه وجميل أدائه، فى حين كان المعروف عنه من قبل أن ثقافته مقصورة على اللغة الإنجليزية التى تعلمها فى جامعة أكسفورد دون اللغة العربية.
يذكر «عبدالنور» أنه من طريف ما يروى، أن الأستاذ مكرم حفظ القرآن الكريم، وتبحر فى العلوم الشرعية والعربية على يدى الأستاذ عاطف بركات، أثناء نفيهما فى جزيرة سيشيل مع سعد زغلول، ونفعته هذه الدراسة فى حياته السياسية، إذ جعلت منه خطيبا من أكبر الخطباء الذين اعتلوا المنابر، ومحاميا مترافعا من أبرز المحامين الذين وقفوا فى ساحات المحاكم، وكاتبا من ألمع الكتاب السياسيين، وداعية من أبلغ الدعاة للقضية المصرية، فضلا عن ثقافته الإنجليزية الأصيلة التى أتاحت له فرض شخصيته على المفاوضين الإنجليز فى المفاوضات التى جرت فى سنتى 1930 و1936.
يضيف «عبدالنور»: «فى المساء قصدنا إلى فندق كلاريدج، حيث أقيمت الحفلة الكبرى من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وأذكر أن مصطفى الخادم بك رحب فيها بمكرم بالنيابة عن أهالى الإسكندرية، وبعد أن ألقى بعض الخطباء والشعراء كلمات وقصائد مناسبة، وقف مكرم عبيد وألقى خطبة سياسية أخرى، وكان بعض الحاضرين يرددون الهتاف بحياة الأستاذ «وليم» مكرم عبيد، وهنا وقف الأستاذ مكرم معلنا أن اسمه الوطنى أصبح «مكرم عبيد»، وأنه أسقط منه «وليم»، لأن الإنجليز تعارفوا على التسمية به، وهكذا أصبح معروفا بهذا الاسم العربى الجديد بين الجميع».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة