من أبرز ما أفرزته الانتخابات الرئاسية 2024، سمة تغيير فى ملامح الخريطة السياسية والحزبية فى مصر، وأن ما قبل الانتخابات شئ، وما بعدها أمور مغايرة بالكلية، فى ظل حضور شعبى غفير، وغياب للهالات الفردية.
خطيئة التيارات المدنية - منذ أن عرفت مصر الحياة الحزبية والسياسية بمفهومها الاحترافى - اعتمادها على الهالة الفردية لمؤسس الحزب أو التيار أو الحركة، وتمحور كل شىء حوله، وتلاشى الأفكار والأيديولوجيات بجواره، وبرحيل أو اختفاء الهالة الفردية، يتلاشى الكيان، ويندثر!
الانتخابات الرئاسية 2024 أرست قيمة أن الشارع فى مصر سبق نخبته فى منسوب الوعى، والقدرة على التقييم والفرز، وتقديرات الموقف، وأن الكيانات السياسية الحزبية التى ترعرعت على فكرة الهالة الفردية، وتقتات من مخزون الحراك الثورى، سقطت من فوق الخريطة، وتجاوزتها العيون، وصارت من مخلفات الماضى، وأن هناك كيانات ابتعدت عن الهالات الفردية، وارتمت فى الحاضنة الشعبية، فى القرى والنجوع والمدن بالمحافظات المختلفة، يقفون مع الناس فى أزماتهم، ويساندونهم فى عثراتهم، وترسيخ فكرة المشاركة والالتفاف حول الأيديولوجيا على أرضية وطنية، رسخت من أقدامها، وثباتها فى الشارع.
نعم، الأحزاب التى التحمت بالشارع، صار لها وجود، وتأثير فاعل على الأرض، بينما الذين تفرغوا للهالة الفردية، والتنظير السياسى والنضال خلف الكيبورد، والتعفف عن الشارع، فقدت البوصلة، وغرقت فى تيه العالم الافتراضى، واندثر تأثيرها وقدرتها على اقناع الدائرة المحيطة به!
قناعاتى، تأسيسا على القراءة والتحليل، والمراقبة عن كثب، أن الانتخابات الرئاسية 2024 جاءت ترجمة حرفية لما دشنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حفل إفطار الاسرة المصرية، فى رمضان 2022 من خريطة طريق واضحة للجمهورية الجديدة عنوانها: «الوطن يتسع لنا جميعا وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية».
حينها وتحديدا فى 27 إبريل 2022 عقب حفل الإفطار بيومين كتبت مقالا منشورا فى نفس مكان هذه المساحة بـ«اليوم السابع» بعنوان: «خريطة طريق واضحة المعالم.. الرئيس يدشن 16 محورا وصولا للجمهورية الجديدة.. فهل تستوعب التيارات والأحزاب والكتل المدنية الرسالة الواضحة بالقفز فوق اختلاف الأفكار والالتفاف حول الوطن؟».
وطرحت فى المقال سؤالا: هل التيارات والكتل والأحزاب المدنية، تستقبل هذه الخريطة، استقبالا حارا، مع تغيير جذرى فى أفكارها، وأدائها العام، وضرورة إعلاء شأن المراجعات الفكرية، وفق عنوان الجمهورية الجديدة: «الوطن يتسع لنا جميعا وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية»؟
للأسف معظم الأحزاب والتيارات المدنية لم تستقبل الرسالة «الهدية» بعقل متفتح، وتمترست أكثر خلف أفكارها وهالاتها الفردية، وأن أخطر عيوب التيارات المدنية فى السابق، تعاطيها مع المختلفين معها فى الرأى والفكر، باعتبارهم أعداء، تجب مجابهتهم والانتصار عليهم فى حرب ضروس، تتقاطع بعنف مع أبسط قواعد الحرية والديمقراطية، فكانت ترتمى فى أحضان تنظيمات وجماعات لها مشاريعها الخاصة، البعيدة كل البعد عن أفكارهم، وكررتها أكثر من مرة، وكل مرة كانت التنظيمات والجماعات، تقفز فوق أكتافها وصولا للشارع والسلطة معا.
وفى تقديرى، أن دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لحوار سياسى وطنى واسع ضم مختلف أطياف المجتمع السياسية والنقابية والمدنية، على قاعدة الشرعية الدستورية والقانونية، كان نقلة نوعية فى المسار السياسى للدولة المصرية، لم تستثمرها بعض التيارات المدنية، بشكل جيد، وفشلت فى لملمة نفسها، وتوحيد صفوفها، وترسيخ قواعدها فى الشارع، وارتضت بمحض إرادتها المنفردة فى أن تكون مجرد أبواق، لا تلقى أى صدى فى الشارع، من أى نوع، وظهر ذلك جليا فى الانتخابات الرئاسية 2024.
الفرصة قائمة، وعلى التيارات المدنية أن تعيد لملمة نفسها، والاعتراف بضرورة أن تجرى عمليات مراجعات فكرية سريعة وبمشرط جراحين مهرة، وتتخلص من الهالات الفردية التى ثبت فشلها طوال عقود طويلة، والإيمان بالعمل الجماعى الواضح الجلى، والالتحام الشعبى ورفض منح أى ضوء لعودة جماعات وتنظيمات إرهابية، وإعلاء شأن مد جسور التعاون مع الكيانات الوطنية، والهبوط من عرش الأحلام الوردية، استعدادا للانتخابات الرئاسية 2030 من الآن.
نتمنى هذه المرة أن تبنى التيارات المدنية على الحراك الشعبى القوى فى الانتخابات الرئاسية 2024 وتستعد مبكرا لخوض الانتخابات المقبلة فى ظل حاضنة شعبية، رافضة لمنح أى ضوء ولو خافتا لعودة تنظيمات وتيارات إرهابية، أياديها ملطخة بالدماء!