"كنت بشتاق لك وأنا وانت هنا... بيني وبينك خطوتين... خطوتين ... شوف بقينا ازاي ؟ أنا فين يا حبيبي... وانت فين؟" مقطع من أغنية "بعيد عنك" لكوكب الشرق أم كلثوم يلخص ببساطة حال بطلي العرض المسرحي الذي يحمل الاسم نفسه على مسرح مركز الإبداع الفني بدار الأوبرا المصرية.
الزوجان سالي وشريف اللذان لعب دورهما الفنانان محمد الدمراوي وهدير الشريف، جمعهما بيت واحد لست سنوات ولكن المسافة بينهما مع الوقت والتراكمات تصبح شاسعة. يفتتح العرض بصوت أم كلثوم تشدو، تتردد في ذهني كلمات "ما تبعدنيش بعيد عنك" أشعر أنه نداء استغاثة من الزوجة التي تشعر بالعجز أمام المسافة التي تزداد اتساعا بينها وبين الزوج الذي اختارته وأحبته، ولكنها لا تجيد التعبير عن مشاعرها ولا مخاوفها فلا تجد طريقة لتبديد ركود الحياة بينهما سوى اختلاق مشكلة في الوقت غير المناسب على الإطلاق سرعان ما تتطور إلى طلب الطلاق.
تقلق بصوت بكائها في الثالثة فجرا منام الزوج المرهق المثقل بهموم العمل، فيحاول أن يؤجل العراك الذي يلوح في الأفق لوقت آخر لحاجته إلى النوم، إلا إنها تستخدم الكلمات التي تعرف جيدا أنها ستطرد النوم من عينيه لأنه في النهاية حريص على علاقتهما أكثر من راحته.
في فصل واحد وبديكور ثابت يتتابع ظهور الشخصيات على خشبة المسرح، وقد كتبها محمد عبد الستار بإتقان شديد يجعلك متأكدا أن لكل منهم قصة أخرى في الخلفية تشغلك حتى بعد نهاية العرض فتجد نفسك سعيدا من أجل نورا "ريهام سامي" الفتاة البسيطة التي لم تتخل عن معاييرها في اختيار شريك حياتها التي ربما تبدو بحسابات المنطق مستحيلة، لكنها لم تتوقف عن الحلم، حتى ساق لها القدر صدفة ذلك الشخص الذي يحمل كل مواصفات أحلامها حتى تلك التي ظنتها مستحيلة لدرجة أنها كانت مستعدة للتخلي عن شرط أو اثنين وتقبل بالحد "المعقول" من المعايير التي تتماشى مع واقعها.
تجد نفسك سعيدا من أجل هاني "أمجد الحجار" الذي يبدو أن الفصل الأخير لوحدته قد كتب، لكنك تتساءل عن ماضيه وقصة كلبه والسر الذي يحرمه النوم إلا على خلفية من أصوات الشجار والخلافات. تفكر في مدى صدق مهاب "أحمد الشاذلي" في حبه، وما إن كان جابر "وليد عبد الغني" سيتمكن من إنقاذ علاقته ب "يارا" بعد أن تلقى عشرات النصائح خلال محاولته الإصلاح بين سالي وشريف، تجد نفسك تفكر حتى في مصير عبد العزيز "عبد العزيز حسين" فرد الأمن تحت التدريب، والذي كان متحمسا جدا لعمله رغم أنه غير مؤهل له، لكن حماسه يجعلك تتمنى أن يلتحق بالعمل.
اندهشت حين عرفت أن القصة مستوحاة من مسرحية قديمة للكاتب الإسباني إنريكي بونثلا هي "ليلة ساهرة من ليالي الربيع"، إلا أن الكاتب أوضح في تصريحات تلفزيونية أنه كان حريصا جدا على تمصيرها وتطويرها لتكون معبرة عن المجتمع المصري؛ وهو ما نجح فيه بالفعل فلم أشك للحظة في أصالتها، إذ بدا العرض وكأنه فتح نافذة على عشرات البيوت والعلاقات في مصر. سلط الضوء بخفة على مدى تعقيد العلاقات العاطفية والزوجية وأخطر الأخطاء التي تهددها، بداية من الإهمال والصمت والروتين وصولا إلى الكلمات القاسية في الخلافات التي تحفر جرحا في القلب لا يندمل حتى لو انتهى الخلاف وبدا وكأن المياه عادت لمجاريها. وكيف يمكن حل مشكلات كبير بخوض محادثة صعبة واحدة يحرص الطرفان فيها على تقريب المسافات والتحدث بشفافية وانفتاح عن مشاعرهم وتعقيداتها.
الكثير من المتعة والضحك والأسئلة والأفكار تغمرك حين تشاهد العرض السلس البسيط مما يجعلك تشعر بالامتنان لفريق العمل المتناغم والمبدع الذي قدمه بمقادير مضبوطة جدا. تحية إلى المؤلف والمخرج محمد عبد الستار، والفنانين وليد عبد الغني، هدير الشريف، محمد الدمراوي، ريهام سامي ، أمجد الحجار، عبد العزيز حسين، أحمد الشاذلي، وموسيقى مها عمران التي أذابت القلب في الكثير من المشاهد، وتحية إلى المبدع خالد جلال المشرف على مسرح مركز الإبداع الفني والذي فتح الباب لكل هذه المواهب ومنحنا كل هذه المتعة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة