كانت الانتخاباتُ الرئاسيّةُ حوارًا وطنيًّا، على معنى من معانيها. وسبقتها جولةٌ مُوسَّعة، ومن المُرتقَب أن تتجدَّد الورشةُ فى المستقبل القريب. لكنَّ ما بعد الاستحقاق يختلف عمَّا قبله؛ لناحية أنّ التجربةَ اشتدَّ عودُها، والمشاركون اختبروا جدّيتها، وصارت أمامهم لحظةٌ مرجعيّة يُمكن القياس عليها؛ فيطوّرون أفكارهم بعدما تطوَّرت اللغةُ المشتركة، وجرى تقريب الرؤى إلى مستوىً يسمح بالاستيعاب والفهم المُتبادَل. والحقيقةُ أن تمسُّك الدولةِ بالحالة الحوارية، واستبقاء مفاعليها نشطةً فى المجال العام وبين القوى السياسية؛ إنّما يُشير لفلسفةٍ جديدة تتمدَّد فى بِنية العقل المُؤسَّسى، ويفرضُ على النُّخَب الحزبية أن تتجاوب معها، وتعكسها فى خطابها وسلوكيّاتها، دون تفريطٍ فى ثمار الحلقة الأولى، أو إغفالٍ لما أفرزته الانتخابات من معانٍ وخُلاصات.
كان المُرادُ عندما رُتِّبت الطاولة بدعوةٍ رئاسية، أن نعودَ إلى صيغة الصراع السلمى فى مُداولات الشأن العام، وأن يتأسَّس ذلك على التعقُّل والجدّية والأفكار الصلبة، وليس بأدوات المُزايدة والاستقطاب وإلغاء الآخر ماديًّا ومعنويًّا. والحوار كان الرافعةَ التى انتشلت مصر من فوضى ما بعد يناير، وجنَّبتها المحرقة التى أشعلتها الرجعيّة الدينية بعد صعود الإخوان وتسلُّطهم على المشهد. وإن كانت لحظة «30 يونيو» جسَّدت الصيغةَ الإجماعية الأكثر نُضجًا وتكاملاً؛ فإنّ غاية التواصل بين مُكوِّنات تحالفها القديم أن تُرمَّمَ الشقوقُ التى أحدثها الزمن، ويُعادَ بناءُ التحالف على ركائز أكثر موضوعيّةً واتّزانًا. كان السؤال وجوديًّا قبل عشر سنوات؛ لذا كانت الإجابةُ واحدةً. أمَّا الآن فقد صار سؤالاً نهضويًّا، وطرائق الجواب ثريّةً ومُتعدِّدةً بتعدُّد المُمتحِنين؛ وأيَّة مُقاربة جادة يجب ألا تُقيِّم أمورَ اليوم بما كان أمس.
احتاجَ المجالُ السياسى سنّةً وعدَّةَ شهور، بين دعوة الرئيس وانطلاق الحوار؛ لتذويب رواسب الماضى وابتكار لُغةٍ مُناسبة للسياق الراهن. لكنَّ أهمَّ ما توصَّل إليه المُشتغلون على التجربة أنَّ التوافق ليس مُستحيلاً، والمشتركات أكبر ممَّا كانوا يظنّون، وبقليلٍ من الجهد يُمكن أن تُصاغ مساحاتُ التقاءٍ قابلةٌ للتوسعة. وما استغرق شهورًا فى الغُرف المُغلقة، تُرجِمَ بأحاديثَ مُنضبطةٍ فى العَلَن، وحفَّز المشهد الشعبى فى صناديق الرئاسة، ويُبشِّر بعطايا أكثر عُمقًا وتنوُّعًا فى العودة الثانية. إذ صار واضحًا أن اللقاء مصلحة جماعية، وما عطَّله سوءُ الفهم سابقًا، يُمكن أن يُعالجه التفاهمُ؛ طالما تلاقت الإراداتُ على رغبةٍ أمينة وصافية فى ترشيد التباينات، وترسيم مضمار التنافس وفق معايير تتجاوز الانغلاق الرتيب والشعبوية الصارخة.
ما قطعه المُتحاورون فى شهورٍ طويلة، صار بالإمكان أن يقفزوه فى خطوةٍ واحدة. إنّهم لا يبدأون اليوم من الصفر كما كانوا، ولا من ضغائن وأغاليط حملها كلُّ فريقٍ فى صدره، ولم يُجرِّب إثارتها مع الشركاء بدلاً من التوجُّس والقطيعة. وقد أثبتت التجربةُ أن الخصام يضرُّ الأطرافَ جميعًا؛ بينما الوَصْل والجدلُ الحميد يفتحان الأبواب المُغلقة، ويتركان أثرًا ملموسًا فى الآخرين، وفى الذات أيضًا. وانطلاقًا من ذلك فإنَّ العودةَ لن تكون مشمولةً بارتيابِ المرَّة الأُولى، ولا بالبطءِ الذى يتحسَّبُ من رُدود فِعل الخصوم والأصدقاء، ويُفتِّش فى النوايا بأكثر ممَّا يُركِّز فى الأقوال والأفعال. أى أن المُداولةَ الجديدة صارت مُحصَّنةً بالخبرةِ السابقة، ما يُعزِّز فُرصَ الوصول السهل إلى التوافق واستحصال النتائج.
فى الامتحان الأوَّل، وُضِعَت كلُّ المسائل الخلافية دفعةً واحدة، ونُوقِش ما أُثير منها بأعلى سقفٍ من الحدّة والجدل. ولعلَّه كان مطلوبًا فعلاً أن يبدأ الطريق من الذروة، وبأقصى حدود السخونة التى تُقلِّب التُّربة، ويحتملها المتداولون فيها فلا تُحرق أياديهم. وما يتبقَّى من عناوين الفصل الافتتاحى ربما تُرافقه السخونة القديمة، أو يصفو ويتلبّس معطفًا أشدّ وقارًا؛ لكن المُهم أن تُدار رُزمةُ المُقترحات الجديدة بمنطقٍ مُغاير؛ حيث يكون النقاش بابًا للتفكيك والتحليل، لا للمُشاكسة المجّانية وإثبات الحضور، وقد ترسَّخت المقاعد وحجزَ كلُّ طيفٍ مكانه. وكذلك أن تكون مدخلاً رصينًا لأن تفهم التيارات نفسها، بقدر ما تتعرَّف على مُخالفيها، وتُوطِّن عقيدتها على أنها فى شراكةٍ مفتوحة ومُستدامة، تتعدَّل مواقعُها بالنقاط وبالتدرُّج الصاعد، وليست فى مُباراةِ بطولةٍ تنتهى بخروج الغلوب؛ إذ لا غالب ولا مغلوب طالما يلعب الجميع لصالحٍ عام.
المطلوب أن تكون المرحلةُ التالية مُلتهبةً فى عُمقها، وهادئةً فى مُداولاتها. فما كشفته الانتخابات الرئاسية أن فائضَ التعبئة، من حرارةِ العاطفة أو خطابةِ المنابر، ربما لم يعُد مُقنعًا للجمهور، وأنهم يأملون من نُخبتهم ما هو أكبر من الهجاء والمطاعن وإثبات الموقف. فى التجارب السابقة كان الشارع رديفًا، فتلقَّى دعايات الطليعة السياسية وترجمها حضورًا وغيابًا. ومُؤخّرًا تقدَّم العوام على الخواص، وأسقطوا دعاوى المقاطعة، وغضّوا أبصارَهم عن اللغة الخشنة؛ فسجَّلوا تصويتًا قياسيًّا ما أحرزته أشدُّ الاستحقاقات استقطابًا، كما بالعام 2012. سيكون واجبًا على الأحزاب أن تستوعب الرسالةَ، وأن تُطوِّر أداءها بما لا يجرفها خارج الحسابات الشعبية تمامًا. المحكُّ اليوم أن تظلَّ مرافقُ الأيديولوجيا مفتوحةً، أو أن يُغلقها أصحابُها بأخطاء الحساب وسوء الاستجابة.
أمَّا جسد «الحوار» وهويّته؛ فإنهما فى حاجةٍ للتدقيق وإحكام الصياغة. سُمِحَ فيما مضى بأن تتَّخذ الطاولةُ هيئةً نيابية، بمعنى أنها مارست أدوارًا من صميم اختصاص البرلمان، واستقرَّت على مُقترحاتٍ وبرامج يتوجَّب حسمها بآلياتٍ مُؤسَّسية يُحدِّدها الدستور والقانون. ربما بُنِى ذلك على رغبةٍ من الدولة فى بناء الثقة، وإكساب الحاضنةِ الوليدة ثقلاً معنويًّا وفاعليّة مادية، يُصبَّان فى اتجاه أن تكون «رأسَ جسرٍ» يعبرُ عليه الجميع هواجسَهم الراكدة. أَمَا وقد مضت مرحلةُ الاستكشاف، وخاضت الأحزابُ تجربةً مع الشارع فى الرئاسة؛ فالواجب والأجدى أن يكون التحاورُ تدريبًا على الاختلاف، وتأهيلاً للسباقات التالية. والمقصود أن تُدَار الطاولةُ على معنى «الحوار المُجتمعى» لا البرلمان المُوازى؛ لئلّا تفتئت على السلطات، ولا أن تُغذِّى كسلَ الأحزاب وتقاعسها عن التجهُّز للانتخابات. هكذا ينتقل الشارع لقلب المشهد، ويُسوِّق الحزبيّون برامجَهم، وتنضجُ صيغةُ الورشة العمومية التى لا تتعارض مع مرافق التشريع؛ إنما ترفدها بالأفكار، وتتقوّى بصلاحيّاتها الإجرائية، وتُقوِّمها بعافية التيَّارات وطاقة الشارع، وبالأوراق المُكتملة والمُتجرِّدة.
النضجُ المأمول يتعارضُ مع النظر للحالة باعتبارها حلبةَ مُصارعةٍ، لا قاعةَ علمٍ وبحث. وفيما سبق طاب لبعض المدعوِّين أن يتلقَّوا الدعوةَ تحت عنوان الأزمة؛ بل تصوَّروها مُناورةً من السلطة لإحراز مكاسب سياسية. وقال العاقلون وقتها إن الدولة لم تخضع للابتزاز بعد 2013، وكانت الرسائلُ الحارقةُ تُمطرها من كلِّ سماء. أما وأنَّ الشارع قد أخلف ظُنونَ النخبة، فإن عليهم أن يتواضعوا قليلاً أمام العقل والسياسة الحقَّة. ومفاتيحُ ذلك ألَّا يتجاهلوا ثوابت «30 يونيو»، وأن يُصوِّب الذين ساروا منهم ناحية الرجعيِّة الدينية مساراتِهم، ويكفُّوا عن إدارة نزاعهم بالمُناكفة والمظلومية والبلاغة القديمة. الغرفةُ التى يزدهر فيها الكلام لا تسكنها القطيعة والأشباح، والحوارُ فى جوهره دليلُ قوَّةٍ لا ضعف: الدولة قويَّةٌ إذ تذهبُ إليه، والمعارضةُ قويةٌ وهى تُنصت له ولا تتعالى عليه.. والشعب أقوى من الجميع، ويُوزِّع رضاه على طالبيه؛ بقدر ما يقبضون على الجدارة ويجتهدون فى الطلب.
كلُّ فعلٍ بشرىّ يشوبُه النقصُ بالضرورة. والمقامُ يتَّسع لما فى صدور الجميع من مُلاحظات؛ لكنَّ ذلك لا ينفى أن الحوار الوطنى كان واحدًا من أهم الاختراقات فى بيئةٍ سياسية هشّة، تضرَّرت من سيولة قواها بأكثر ممَّا أصابها من خارجها، وتلقَّت ضرباتٍ كثيفةً وقاسية من مُفتتح 2011 إلى آخر رصاصات الإرهاب. والعودة إلى الحوار مسارُ الضرورة الذى لا بديلَ عنه؛ إذ يُتيح للساحة أن تنضج من داخلها، وينقلُ اللعبةَ السياسية من التطاحُن للتكامل، ويختصرُ محطّاتٍ عديدة كانت تُقطَع قديمًا لإقناع الدولة بالجلوس إلى مائدةٍ واحدة. والرئيسُ لم يتوقَّف عن امتداح التجربة، وأكَّد تمسُّكَه بها قبل الانتخابات وبعد الفوز. وإن كان من فضلٍ فيما أحرزته ثلاثةُ أحزاب فى سباق الرئاسة؛ فإنه للحوار فى ورشته الأولى، وإن كان الحزبيِّون جادّين فى تنشيط كياناتهم، والتجهيز لبرلمان 2025 ورئاسة 2030؛ فإن الورشة الثانية بوّابةٌ عريضة لا يصحُّ تفويتُها. كلُّ الصراعات مبعثُها البحثُ عن الحوار، وحينما تُنصَب الطاولةُ فلا مجال إلَّا لصراع الأخذ والردِّ وضَبط الخطابات وتطوير المُمارسات. تُبنَى الدُول بالشراكة، والشراكةُ بالسياسة، والسياسةُ بالاجتهاد والتراكُم. والذين يبحثون عن مكاسب سهلة؛ يُغافلهم الوقتُ، فلا يربحون ولا تتحسَّن مهاراتُهم. والسياسى مثل لاعب الكُرة فى لياقته البدنية، ومثل الفلاسفة فى الحكمة التى يُنضجها الزمن، وكما لا تُوضَعُ القدمُ موضعَ العقل، فإن ما تحتاجه الخبرةُ لا يحسمه التصويب الطائش والمُباريات المُتعجّلة.