هناك نظرية عبقرية تقول إن السياسة قوامها الجوهرى هو القدرة على القراءة التحليلية المتأنية، والتقييم الجيد للأحداث، والابتعاد عن العاطفة، أو التنفيس أو التعبير الغاضب عن المواقف، كما تتقاطع كلية مع ردود الأفعال المتسرعة، لذلك مصر - بقيادتها السياسية الحالية - طبقت نظرية الصبر الاستراتيجى فى إدارة ملفاتها الداخلية والخارجية بحكمة، وقدرة على ضبط النفس، مذهلتين، وسط نيران مشتعلة على محاورها الاستراتيجية، فى الجنوب والشمال الشرقى والشمال الغربى، وهو ما لم تشهده مصر من قبل.
ومنذ السابع من أكتوبر الماضى، عندما اندلعت شرارة النار على المحور الاستراتيجى الأهم فى الشمال الشرقى، وإعلان إسرائيل - بشكل واضح وجلى، وبعين وقحة - إحياء مشروعها القديم الساكنة ملفاته فى صدور حكوماتها ومؤسساتها المتطرفة، بتصفية القضية الفلسطينية والتهجير القسرى للغزاويين بشكل خاص، ومصر تخوض معارك متعددة متسلحة بنظام سياسى قوى قارئ جيد للخرائط ومدرك للملفات الساخنة، ولديه تقديرات موقف دقيقة للشأن الدولى، وقدرة متميزة على تطبيق نظرية الصبر الاستراتيجى، ورسم الخطوط الحمراء عندما يحتاج الأمر لتدشينه، كما بلغت من النضج والحكمة فى مواجهة الأزمات مهما كان حجمها، مرتبة عالية، لذلك ظهرت الدولة المصرية فى أزمة حرب الإبادة الوحشية على غزة، بكياسة وفطنة وحكمة القوة، وكأنها تستخرج من مخزونها الحضارى والثقافى المتجذر فى أعماق التاريخ، لتقول للعالم كله وبصوت جهورى: «أنا مصر أول من أسس جيشا على وجه الأرض، وأول من وقع معاهدة سلام مكتوبة، وأول من عرف الطب والكيمياء والفلك والزراعة والرسم والنقش، بينما كان يغرق العالم فى الظلام».
الآن مصر تلعب مباراة شطرنج سياسية عنيفة، مع منتخب يضم لاعبين دوليين محترفين وذوى ثقل، لمنع مخطط صياغة المنطقة وفق أهداف خطيرة لن تؤثر على أمن واستقرار المنطقة برمتها فحسب، ولكن على الأمن والسلام الدوليين، لذلك، ومع تحريك أى قطعة على رقعة الشطرنج المشتعلة، تحتاج لتركيز مفرط، وقرارات صائبة ودقيقة، محصنة ضد الخطأ، وتحقق هدفًا سياسيًا قويًا، ومن المعلوم بالضرورة أن مباريات الشطرنج السياسية لا تحتاج لمهارات فذة وقوة تركيز فحسب، ولكن تحتاج أيضًا لذكاء وكياسة وثبات وقدرة فائقة على إخفاء لغة الجسد، بحيث لا يستطيع الخصم أن يقرأ ملامح وتعبيرات الوجه والعيون وباقى الأعضاء، ولا يستطيع أن يتنبأ بتحريك القطعة فى أى مربع من مربعات الرقعة!
مصر تخوض معارك ضروسًا لمنع تصفية القضية الفلسطينية والتهجير القسرى، ومحاولة إسرائيل اقتطاع مساحات جديدة من أراضى القطاع وضمها لها، وأن مصر موقفها ثابت وراسخ لن يتزعزع حيال إقامة دولة فلسطين على كامل الأراضى والمحددة فى الرابع من يونيو 1967، إيمانا بأن لا حل للقضية إلا بإقامة دولتين جارتين تتعايشان سلميا.
وتحذر مصر من تنفيذ مخطط إقامة منطقة عازلة فى قطاع غزة بما يعنى اقتطاع مساحات جديدة وكبيرة من الأراضى الفلسطينية، مع التأكيد على أن مثل هذه السيناريوهات لن يضمن الحماية والأمن والأمان لإسرائيل، وأن الضمان الحقيقى للأمن والأمان لتل أبيب، هو إيجاد حل عادل يضمن إقامة الدولتين.
الخلاصة أن مصر - بقيادتها السياسية - أثبتت خلال مباراة الشطرنج حامية الوطيس التى تلعبها مع منتخب يضم لاعبين أقوياء، أنها لاعب قوى ومؤثر على رقعة الشطرنج السياسية، وأنها تستطيع أن تغير من تكتيكاتها، بينما سياستها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.