ودّعنا محطة ونستعد لاستقبال الثانية، فى واحد من أهم الاستحقاقات الرئاسية منذ التحول إلى الجمهورية قبل 7 عقود. لقد كان مشهد الإقبال الكثيف من المغتربين على 137 مقرا انتخابيا بالسفارات والقنصليات المصرية فى 121 دولة؛ تعبيرًا عن حالة من الوعى والاهتمام بالمشهد السياسى، وقبل ذلك كان استشعارا للظرف الاستثنائى الذى يُدار فيه السباق، بينما تلتهب جغرافيا المنطقة وتُسيّج التوترات حدود مصر شرقا وغربا وفى الجنوب؛ ولعلّها كانت «بروفة أولية» لما يُنتظَر أن تصير إليه الأمور فى تصويت الداخل على ثلاثة أيام من الأسبوع المقبل.
كان الانتقال من الملكية إلى الجمهورية تأسيسا جديدا للدولة، وقعت فيه على هويّتها الحقيقية التى بدأ تشكُّلها فى شوارع ثورة 1919، وتكفّلت نُخب الثقافة والتنوير والفنون بإثرائها؛ لكنها تعطّلت فى طريق استكمال البناء والتأسيس بفعل الاحتلال وفساد القصر وانتهازية كثير من السياسيين.
أما اليوم فعندما يتجه المصريون إلى اللجان؛ فإنهم يُضيفون مدماكا جديدا إلى جدار المناعة الوطنية الذى بدأ بناؤه منذ العام 1953، باستخلاص الجمهورية من رواسب الملكية بعد شهور من الثورة، كما يُعالجون القصور والثغرات التى شابت التجربة فى محطاتها السابقة، بين ارتباك الستينيات، ومُناكفات السبعينيات، وجمود الثمانينيات والتسعينيات، وفوضى 2011 وما بعدها من حُكم الإخوان، وفى القلب من كل ذلك سيل لم ينقطع من الاستهداف والمؤامرات؛ كان يطيب للبعض أن يتجاهله أو يسخر منه؛ حتى بدا واضحا بأشرس صورةٍ فى عدوان إسرائيل الأخير على غزة، وما رافقه من أحاديث تخص تصفية القضية أو مُخطط الاحتلال لإزاحة الفلسطينيين نحو دول الجوار، إن كانت سيناء فى حالة غزة، أو الأردن فى حالة الضفة الغربية.
عبرت الدولة على أكتاف الضباط الأحرار، من اختطاف الإرادة وارتهان الأرض والبشر لرغبات أفراد لا ميزة فيهم سوى النسب، إلى بناء تجربة يقودها أبناء الفقراء والمهمشين، ويحضر فيها المصرى مواطنًا وشريكًا وليس عقارًا ولا رقمًا فى جملة الرعاية. التحديات لم تكن يسيرة، والمسيرة تعطّلت حينًا وتوقفت أحيانًا، وخاضت مصر حروبًا خشنة وناعمة على جبهات عدّة؛ لكنها لم تفقد الإيمان بأهمية المسار ونجاعته فى التأسيس للمستقبل، وفى صلاحيته أن يحمل معمار جمهورية جديدة ستُولد من العمل الجاد، والتقاء الإرادات، والاختلاف تحت سقف المصالح الوطنية والغايات العُليا.
إن الاستحقاق الرئاسى عندما كان بالاستفتاء، قدّم صورة أكثر كفاءة وديناميكية من الملكية الباردة. على الأقل كان مجلس الأمة يحل وسيطا فى اقتراح الاسم، ويعهد للمقترعين بتزكيته أو نزع شرعيته، بينما الملوك يأتون بالقضاء والقدر ولا يرحلون إلا بهما. وإلى ذلك قدّمت الجمهورية رؤية نهضوية عظيمة الطموح والكفاءة والأثر، وخلال خطة خمسية وبضع سنوات أنجزت مئات المصانع واستصلحت آلاف الأفدنة وأعادت الاعتبار للعدالة الاجتماعية، وزاد الناتج الإجمالى وتحسن التعليم والصحة وشهدت الثقافة والفنون طفرات واسعة، وأقل من ذلك استهلك من أبناء محمد على وأحفاده عقودا طويلة وديونًا كبّلت البلد واقتطعت منه أهم أصوله، قناة السويس، وفاءً بالتزامات كان باعثها الوحيد طموح الخديو فى أن يستحضر أوروبا بدل أن يسافر إليها، وأن يُباهى الأوروبيين من موقع النديّة فى المظهر؛ وإن ظل عاجزًا عن استحصال ندية الجوهر.
وعندما صار سباق الحُكم تعدّديا وبالانتخاب المباشر؛ بات بالإمكان أن تُدار المنافسة السياسية على قاعدة الأيديولوجيا والبرامج، وأن تُوظف المنصة الرئاسية ميدانًا للصراع السلمى والدعاية المنضبطة، بما ينعكس على الأحزاب والتيارات فى أبنيتها وكوادرها وقاعدة العضوية، ويُمهد طريقها إلى الاستحقاقات التالية فى البرلمان أو المحليات، بل والنقابات والمؤسسات المدنية. كانت المُعضلة طوال الوقت أن كثيرا من الكيانات السياسية هشّة ومعزولة عن المحاضن الشعبية، والسبيل لمداواة ذلك أن تندمج فى ورشة الحُكم بكفاءة أعلى، إن عبر التحالفات والائتلافات، أو المنافسة الجادة والإصرار عليها بغرض خلق حالة من الزخم والتراكم والرصيد القابل للصرف لدى الناخبين.
الجمهورية التى وصلت إلى ربيع عُمرها بعدد السنوات، لا تزال شابة بالممارسة والآفاق التى حققتها وتصبو إليها وتقدر على إنجازها. للأسف لم يتوافر لها مناخ ممتد لاستكمال ملامحها وتقوية أعمدتها، فتعرضت لانتكاسات عارضة أو مُرتبة. نكسة يونيو كانت واحدة، واغتيال السادات واحدة، وانسداد شرايين نظام مبارك، وفوضى يناير، ومرحلة الانحطاط الإخوانى، ومعركة الإرهاب الطويلة بعد ثورة 30 يونيو، ثم الأزمات الدولية المتفجرة تهديدًا للأمن أو تحجيمًا للاقتصاد. لكنها رغم تحديات الماضى واصلت العبور وقفز الحواجز، ورغم تحديات الحاضر تجتهد لتصفية التجربة وضبط عناصرها ودفعها إلى الأمام من دون توقف، وكما كانت جولة 2014 افتتاحا لسباق تغيب عنه الشعارات الدينية والأجندات الممولة تحت عناوين سياسية أو حقوقية، فإن استحقاق 2024 يؤسس لجولة تعددية مُغايرة لكل ما فاتها؛ إذ يتنافس رؤساء ثلاثة أحزاب كُبرى بأنفسهم، فى إعادة الاعتبار للسياسة المُنظّمة، ولأن تكون المنافسة على أيديولوجيا وبرامج، لا تحت لافتات شخصية أو شعارات عاطفية. عن 70 عاما من عُمر الجمهورية ليس حدثا عابرا، ولا الوقوف على أعتاب استحقاق يُشكّل مرحلة جديدة فى حياتها وأُفق نضوجها وتوترها يُمكن اعتباره مشهدا عاديا. جمهورية التأسيس أنجزت ما عليها، وتفتح لنا الأبواب اليوم لنسير إلى الجمهورية الجديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة