"أيها الأحباء لا تموتوا"، وجدتني أردد هذه الجملة بصوت مخنوق بينما كنت أتابع الجرائم الصهيونية البشعة والمتوالية على خان يونس ومخيم جباليا وبيت لاهيا ودير البلح، من الجنوب إلى الشمال مررورًا بوسط قطاع غزة، إذ يهدمون المنازل بالجرافات ويقتنصون الأرواح البشرية، الدم يملأ الشوارع الفلسطينية ويتناثر على شاشات الأخبار أمام وجعنا وعجزنا وارتباكنا، ومن الصورة القاسية يطل المرابضون من الطواقم الطبية والصحفية والشباب الصامد، حضورهم يصنع نورًا من العتمة ويرسم أملًا عنيدًا وهم يغنون: "سوف نبقى هنا كي يزول الألم سوف نحيا هنا سوف يحلو النغم".
ما يأسرني في التحدّي الفلسطيني اليومي الذي أراه على الشاشة، ليست القوة ولا البطولات، تأسرني بساطة تشير إلى أمر بديهي وهو أنهم باقون لن يغادروا، لأن هذا موطنهم، هكذا ببساطة دون تكلّف ولا ادّعاء بطولي، كأنهم يعلمونا الفرق بينهم وهم يصنعون الحياة وبين عدو ينشر الموت ويزرع شوك الغل والكراهية.. تلك الحياة التي يُجرجرها الفلسطيني يومًا بعد يوم، تحررني من كل مخاوفي الواقعية والميتافيزيقية، وأتصور أنها تحرر أيضًا هؤلاء الذين رفعوا رايات الغضب فى أنحاء الأرض، مواجهون العنف والغشم الاسرائيلي، في حين لم نلحظ ذلك في بلدان عربية تعاملت مع فلسطين كأنما لو كانت صخرة ثقيلة على صدرها وقد قرّرت إزاحتها.
أغنية جاءت في وقتها ...
ثمة تماثل بين أحوال أهل غزة الصامدين وبين "تقول فلسطين لا تنسها"، أغنية قديمة، غير متداولة للفنان كارم محمود، صادفتني الأغنية في هذه اللحظة المشحونة لأهل غزة وما حلّ بهم من ظلم وعدوان جائر، واللحظة المواتية بالصمود والأمل النابع في كلمات كتبها الشاعر الفلسطيني المعروف هارون هاشم رشيد صاحب "سنرجع يومًا إلى حينا" التي غنتها فيروز، واحد من أبرز شعراء الخمسينيات ومن أكثر شعراء فلسطين طرحًا لحلم العودة واستخدامها لغويًا، حتى أن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة لقبه بـ "شاعر القرار 194" )قرار الأمم المتحدة حول حق العودة(، أما اللحن فكان للمصري الشيخ مرسي الحريري، عازف العود الشهير الذي تتلمذ على يد الشيخ درويش الحريرى وكامل الخلعى.
إنها ليست المرة الوحيدة التي قام فيها كارم محمود بالغناء من أجل فلسطين، فالتنوع المدهش في تجربته سمح لصوته بالارتقاء شعرًا وموسيقى في قصائد تُحاكي الطابع الملحمي، فغنّى مثلًا "هنا باقون"، وهي من قصائد توفيق زيّاد، مقاطعها منظمة إيقاعيًا بما يبرز الصورة الشعرية بنفس أوركسترالي غنائي إنشادي، يقوم على الفرديات الصوتية "السولو" وعلى الإنشاد الجماعي، أسمع كارم محمود، بل ويكاد يلوح لي في ذهني أصوات الفلسطينيين الرابضين على أراضيهم كما لو كانت خلفية في صوت الكورال.
غنّى كذلك من ألحانه وكلمات محمود رشاد الدسوقى نشيد (فلسطين):"فلسطين يا حرة يا مهد العرب"، كما شارك فيروز في مغناة "راجعون" كلمات وألحان منصور الرحباني 1957 ، وهي من النوادر التي تم توثيقها على أنها من ألحان منصور الرحباني دون أخيه عاصي، وكانت إذاعة فلسطين في القاهرة قد اعتمدتها لتكون شارتها المميزة، (راجعون) من أكثر أغاني الرحبانية تعبيرًا عن ملامح حلم العودة وإصرارًا عليه في مشروعهم الذي ساند القضية الفلسطينية بوضوح، حتى أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش قال عنه: "قدم الرحابنة فنيًا لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم. أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي الوطن المستعاد"، في (راجعون) نوع من التثوير المختلف في الأغاني، فهناك حبكة درامية غير تقليدية ووصف حياة الشتات واستنهاض الهمم. وفيها غنى كارم محمود جملة: (مقدس الأرض ثراها / مهابط الوحي سماها / أصبحت اليوم خرابا /تشتاق للعدل رباها)، وإن ألغيت مشاركة كارم محمود التي سجلها في القاهرة، حين أعيد التسجيل مرة أخرى في بيروت.
نزعة وطنية راسخة
صاحب "أمجاد يا عرب امجاد" ألحان أحمد صدقي وكلمات عبد الفتاح مصطفى: "فى بلادنا كرام أسياد أمجاد يا عرب أمجاد/ إيش تروى الجبال الشمس/ من سيرة رجال أبطال/ تكتبها السيوف بالدم/ مسطورة على الرمال"، قام كذلك بغناء وتلحين أغنيات وطنية عدة منها: وطني يا نهضة مبروكة تأليف محمود رشاد الدسوقي، استعراض أهل الشام كلمات فتحي قورة، تونس الخضرة كلمات اسماعيل حبروك، النشيد القومي لمراكش كلمات محمد حلاوة، يا أرض حرة وشعب زين كلمات محمد حلاوة، موال شعب الكنانة وجماله كلمات فتحي قورة، نشيد الجندي كلمات محمد الفيومي، تونس الخضرة كلمات اسماعيل حبروك، النشيد القومي لمراكش كلمات محمد حلاوة، و غيرها.. كما غنى: "يا جميلة يا رمز الوطنية" عن المناضلة الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد.
إذن تبدو النزعة الوطنية لدى كارم محمود عالية وشديدة الرسوخ، وتعددت أغنياته من هذه الزاوية وكرسته فنانًا عميقًا ومرتبطًا بوطنه العربي الكبير وقضاياه المتشابكة، كان جزءًا من النسق الزمني الذي عاشه وكانت فيه بلده مصر تناضل وتتطلع للحرية والاشتراكية والوحدة، وكما غنى لمصر غنى أيضًا للشام والجزائر وتونس والمغرب، هذا جانب مجهول بالنسبة لكثيرين في مشوار كارم محمود، لكنه موثق وقد ذكره مثلًا دكتور زين نصار في أكثر من موقع وأكثر من لقاء متحدثًا عن مشاركته في المظاهرات الشعبية بالجزائر، والتى خرجت للتنديد بالاحتلال الفرنسى وخطف فرنسا خمسة من الزعماء الجزائريين، وقدم لهم أغنيته "الأحرار الخمسة:" "باسم الأحرار الخمسة حانقيدك نار يا فرنسا"، الأغنية التي ألهبت الحماس وعلى إثرها اعتقله الاستعمار الفرنسى لنحو ستة أشهر، لم تنس الجزائر له هذا الموقف وتعاملت مع كارم محمود كأحد أبطال التحرير الواجبة دعوتهم للمشاركة فى الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال.
لا تنس فلسطين...
صفاء صوت كارم محمود ومرونته وهو يباشر الأغنية بعد مقدمة أداها الكورال، مناديًا الفلسطيني: "تقول فلسطين لا تنسها/ فمن نبتها أنت من غرسها/ ومن عزها أنت ومن بؤسها/ ومن مجدها أنت أنت من قدسها"، يجهر بقوة في ضغطه على الحروف وطول نفسه كتمرس يعرف كيف يستخدم الحجاب الحاجز مع المد النغمي، نجح في التعبير عما تحتويه الكلمات من دراما، فواصل: "تناديك هيا ولا ترفض/ وغامر مع الأمل المربض/ مع القدر الحالك الأسود/ إلى وثبة في ضياء الغد"، النقلات بين الكلمات واللحن الذي اعتمد على الوتريات وخصوصًا العود، أحيت الحالة كلها بشكل فعال وصلت إلى الذروة اللحنية بنغمات مرسوم فيه العذاب والحنين بما يؤكد حالة الولع الكامنة في الجميع سواء المغني الذي يخاطب الشقيق الفلسطيني أو هذا الفلسطيني المكوي بنيران الاحتلال والشتات: تذكر أخي كل شبر هنا/ إذا ما انطلقت تجوس الدنى/ فلا تنس أن تذكر الموطنا/ وتسعى إليه غدًا مؤمنًا".
الوتريات جارحة تعبر عن كوامن جريحة، وفي ذات الوقت تصرخ وتحث وتحرض ولا تغفل المعاناة التي تزخر بها الكلمات:" أخي أينما صرت فالملتقى/ إذا أرعد الثأر أو أبرق/ هناك لنا موطن مسبقا/ سنرجعه غانمًا مشرقا"، يزداد الشجن بدرجة توقظ الثورة والتمرد، فيعلو صوت الكورال: "سنمشي إلى الأرض نحمي حماها/ ونمضي أعزة نروي ثراها/ فنحيا فداها ونمضي فداها/ ولا ولن نريد بديلًا سواها".. وهنا يعلو صوت كارم محمود متداخلًا مع صوت الكورالا بعمق وحماس حاسم:" ولا ولن نريد بديلًا سواها"، وتستعر النار في الأوركسترا كلها، فتنهض في سيل من النغمات الثائرة يُنهي حالة الولع المرتبك.
في رأيي أن هذه الأغنية غير الشائعة في أعمال كارم محمود هي واحدة من أكثر الأغنيات شجنًا ونضوجًا من حيث الإحساس الذي يمثل الحال الفلسطيني، نبرتها الرومانسية تعبر عن حنين تشتعل به النفوس، والبعد التراجيدي فيه لا يستحضر البكائية والميلودراما المبالغ فيها، إنما يشتمل على عمق المأساة، وفي ذات الوجود يندلع هذا الأمل اليقيني بحتمية العودة إلى وطن لا بديل عنه.
يبقى أن الأغنية تمثل حالة شديدة الخصوصية في السياق الغنائي للفنان كارم محمود، لكنها كما أسلفنا ليست وحدها، فثمة أغنيات وألحان كثيرة تتوفر في تجربته الفنان الكبيرة، تحتاج إلى من يعيد إليها بريقها، وأتصور أن هناك أعمال أكثر لم يتم الكشف عنها ومن الضروري أن تطلع للنور وتبين جوانب مهمة في مشوار فنان هيأ حياته وعمره للفن والأوطان، ولعل نجله السفير محمود كارم محمود نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، هو الأكثر دراية بهذه الأعمال والأحرص بتبني دعوتنا للحفاظ عليها كجزء مهم من تراثنا وتاريخنا الفني، وخروجها للنور في لحظة ما أحوجنا فيها للبهاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة