خصّصت سينما زاوية في برنامجها الذي انطلق في منتصف هذا الشهر مهرجانًا باسم نجيب محفوظ، يستمر حتى 2 مارس المقبل وكان قد افتتح بالنسخة المرممة من فيلم "ثرثرة فوق النيل"، هذا الحيز الخاص بنجيب محفوظ تتيحه "زاوية" كجزء من نضالها السينمائي المتفرد، أو بالأحرى من مشروعها القادر على إثارة مزيد من النقاش والتحليل النقدي، وإن بدا هنا أنه يميل إلى الاحتفاء بأفلام تخص أديبنا الفائز بـ "نوبل" واستعادته بأعماله مجددًا من الماضي، إلا أنه يثير كذلك عدة ملاحظات من خلال الأفلام السبعة المعروضة في هذا المهرجان، والمقتبسة عن روايات محفوظية أو كان لمحفوظ دور في صنعها، حيث تطالعنا خمسة أفلام عن رواياته هي: بداية ونهاية (1960) إخراج صلاح أبو سيف، ثرثرة فوق النيل (1971) إخراج حسين كمال، الاختيار (1971) إخراج يوسف شاهين، السكرية (1973) إخراج حسن الإمام، الكرنك (1973) إخراج علي بدرخان، وفيلمان عن روايتين لإحسان عبد القدوس قام نجيب محفوظ بإعدادها للسينما وكتابة السيناريو، وهما: أنا حرة (1959) إخراج صلاح أبو سيف، بئر الحرمان (1969) إخراج كمال الشيخ.
الملاحظة الأولى أن الأفلام المختارة ليست الأعظم قيمة في قائمة أعمال محفوظ المكتوبة أو المرئية، الأدبية أو السينمائية، ولا هي الأكثر جماهيرية كذلك، إنما يمكن اعتبارها نماذجًا لبصمته وإطلالته الفطنة على فن السينما، بما تتسم به من ميزات التنوع سواء في موضوعاتها أو تعدد مخرجيها بمدارسهم ورؤاهم المختلفة، فهذه الأفلام حملت تواقيع مجموعة من أهم مخرجي مصر: صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، حسين كمال، علي بدرخان.. إنضموا إلى عشرات غيرهم في أفلام أخرى.
ما يتيح للمتفرج عند إعادة مشاهدة هذه الأفلام، أن يلمس نوعًا من العمق الانفعالي في شخصيات الأفلام، والعلاقات الإنسانية المتصادمة والمتضاربة غالبًا كما في "بداية ونهاية" مثلًا.. شخصيات تخرج من قاع المجتمع، مشحونة بعوالمه وخواصه، تتدفق عبر السرد الحيوي للكاتب ويقدمها المخرج بنفس الإيقاع المتوقد، والممعن في التوغل في الكواليس والمسارات، كاشفًا صورة موجعة لناس يعيشون شقائهم في سَفْح المدينة، يضيعون في دائرة التوهان، أو يقفون عند الحد الفاصل بين الحياة والموت.
على نفس الصعيد تنتقل المشاهدة إلى زوايا أخرى لرؤية المدينة من خلال التأريخ الاجتماعي لناسها ولشخصياتها كما في "السكرية" مع واحد من أكثر المخرجين إثارة للجدل الثقافي والفكري، الصورة هنا تنبض بالحياة وتصبح موازية الرواية في رسمها الدقيق لتفاصيل الحياة الاجتماعية في مرحلة ساخنة بأحداثها السياسية والاجتماعية وتستكمل الثلاثية الشهيرة، جاء الفيلم بعد "قصر الشوق" بستة سنوات، لتتم هذا المنجز السينمائي الذي بدأ بـ "بين القصرين" (1964)، الفيلم الأكثر إلتصاقًا بثورة 1919، بمشاهده المتخيلة التي تحولت إلى وثيقة متداولة للثورة: الشيوخ والقساوسة، الهلال والصليب، خروج التلاميذ والنساء، الزحف الشعبي عمومًا في مواجهة رصاص الانجليز، سقوط الترامواي، شعارات "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، "يحيا الهلال مع الصليب"،"سعد سعد يحيا سعد"، يلفها لحن سيد درويش "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي"، كل هذا تستعين به الأفلام الوثائقية حتى زال تقريبًا الخط الفاصل بين التخيلي والواقعي.
الملاحظة الثانية أن الأفلام الأخرى غير "السكرية" التي أنتجت في السبعينيات، مالت مضامينها إلى عموميات وسرد تاريخي واختزال درامي يكرس لنوعية السينما السياسية العنيفة في انتقادها: "ثرثرة فوق النيل، الكرنك"، بينما "الاختيار" الذي كتب محفوظ قصته وتولي يوسف شاهين كتابة السيناريو له، فإنه استخدم اشتغالًا بصريًا، دراميًا، فكريًا، جماليًا وتقنيًا فارق الاختلاف، إذ أن الفيلم الأكثر تعقيدًا في تجربة شاهين، يطرح العديد من الأسئلة الوجودية حول الشك واليقين، الحقيقة والزيف، وهي أسئلة في تصوري تماهت مع الحالة العامة للمجتمع المصري بعد نكسة 1967، مع أنه بدا مجردًا من الشكل والحدث السياسي، وحتى من التأريخ الزمني، لكنه كان متسقًا إلى حد ما مع طبيعة المرحلة الصعبة ومرارة واقعها، وأظن أن هذا جزء من تعقيده وتوهانه وانغماسه في خطابية ومونولوجات طويلة.
الملاحظة الثالثة وهي تتعلق بالفيلمين المقتبسين عن روايتي إحسان عبد القدوس، حيث تعكس صورة مختلفة لمجتمعات غير ما عبر عنها محفوظ في رواياته، سردًا وحدثًا وتحليلًا ...
الملاحظة الرابعة تشير إلى أن برنامج سينما زاوية خلا من أفلام الفتوات، على الرغم من أنها سمة ساطعة في تجربة محفوظ السينمائية، بصرف النظر عن تقييمها الفني، بل أنها سمة انفردت بها السينما المصرية كجزء من واقعها الاجتماعي والتاريخي، والمثير أن السينما كانت مدخل محفوظ الأول إلى عالم الفتوات، حيث رأى أن صورة شجيع السينما تتماثل مع صورة الفتوة في واقعه، القوي الذي يسيطر على الحارة بـ"نبوته"، والمثير أن فتوة الروايات الذي عرفناه سينمائيًا كبطل خرج إلينا من عالم الأدب، هو في الأصل سينمائي وإشارة انطلاقه حدثت في فيلم "فتوات الحسينية" 1954 إخراج نيازي مصطفى، كتب قصته ونجح الفيلم بشكل مذهل، جعله يفكر في الشخصية التي اجتمع عليها الجمهور، فقدم بعد ذلك "الحرافيش" التي كانت منهلًا لأفلام الفتوات في فترة لاحقة، قد يكون هناك ظهور لشخصية الفتوة في رواياته قبل هذا الفيلم ، لكنه كان ظهورًا غائمًا وغير مؤثر في الأحداث.. مجرد شخصية هامشية في الأغلب، مثل المعلم "نونو" (محمد رضا) في "خان الخليلي" رجل طيب خفيف الظل، يهتم بحاراته ويتابع أمورها في هدوء لا يمنعه أن يلعن الدنيا مرارًا وتكرارًا: "ملعون أبو الدنيا" لأنه أعطته ظهرها وليس حظها، محمد رضا نفسه جسد شخصية المعلم "كرشة" فى "زقاق المدق"، صاحب المقهى الذي لا يهتم سوى بملذاته وهو رهن إشارة من يدفع له، ولا يهمه ما يدور حوله؛ على طريقة مقولته الذي يشهرها في وجه الجميع: "لكم دينكم ولى دين".
الملاحظة الخامسة يمكن اختصارها في أننا أمام حقيقة واضحة تشير إلى أن نجيب محفوظ سينمائي بامتياز كما وصفه نور الشريف في أحد حواراته الصحفية، له أثر بالغ في السينما المصرية التي اقتبست الكثير من رواياته، ومع ذلك مازال لديه أعمال إما أنها عصية على التنفيذ أو لم ينتبه إليها أحد.
وأخيرًا فإن الجهد المبذول من قبل سينما زاوية يستحق التقدير، بما يتم تقديمه من فرصة إعادة مشاهدة أفلام قديمة بصورة جديدة، وما يتبعها من ندوات تفدم قراءة جديدة للأفلام منبثقة من رغبة في الطزاجة، وتأكيدًا على أنه دائمًا هناك جديد يمكن أن نقوله سواء في روايات نجيب محفوظ أو علاقته بالسينما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة