مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، في نوفمبر من العام المقبل، ربما يتزايد الجدل بصورة كبيرة حول طبيعة المنافسة، في ظل أجواء تبدو مستحدثة على المشهد الديمقراطي الذي طالما روجت له القوى العظمى في العالم، في ظل معارك "تكسير عظام" باتت تهيمن على المشهد السياسي الأمريكي، منذ ما يقرب من عقد كامل من الزمان، ترتب عليها حالة من الانقسام غير المسبوق، بين الأمريكيين، ربما تجلى في أبهى صوره، مع اقتحام الكونجرس في يناير 2021، من قبل أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب للكونجرس، لمنع انعقاد جلسة الإعلان عن فوز منافسه، الرئيس الحالي جو بايدن، وهو المشهد الذي تراجعت معه بصورة كبيرة النظرة العالمية لواشنطن، والتي نجحت لعقود طويلة من الزمن في وضع نفسها على "عرش" الديمقراطية العالمية، والنموذج الذي ينبغي تعميمه على كل دول العالم.
وللحقيقة، فإن الولايات المتحدة نجحت بصورة كبيرة في "تسويق" نموذجها الديمقراطي، عبر تصدير صورة "الوحدة" الأمريكية، رغم الخلافات في الرؤى الحزبية، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى استقرار الأوضاع الاقتصادية، والأمنية، في الداخل الأمريكي، مع استمرار عملية تداول السلطة، بشكل شبه منتظم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ناهيك عن قدرتها الكبيرة في تعميم النموذج الخاص بها في دول أوروبا الغربية، والتي آثرت الدوران في الفلك الأمريكي لعقود طويلة من الزمن، ترجع إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، مع التوغل تدريجيا نحو مناطق أخرى في العالم، نجحت في بعضها، وفشلت في البعض الأخر، إلا أن المحصلة النهائية كانت تبدو "ملهمة" إلى حد كبير، خاصة وأن النجاح الاقتصادي ربما المعيار الرئيسي لدى الشعوب في تقييم التجارب السياسية.
إلا أن الأمور تبدو مختلفة في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ انتخابات الرئاسة في عام 2016، مع بزوغ نجم الرئيس السابق دونالد ترامب، في ظل العديد من المعطيات، أبرزها عدم امتلاكه، في حينها، خلفية سياسية، ناهيك عن رؤاه التي كانت بمثابة معاكسة تماما لكل من سبقوه، ومن بينهم زملاءه الجمهوريين أنفسهم، لتكون حقبته بمثابة حدثا استثنائيا، سواء بالنسبة للمواطن الأمريكي، أو على المستوى الدولي، ربما لقدراته الاقتصادية الخاصة، باعتباره رجل أعمال، والتي نجح من خلالها، احتواء تداعيات الأزمات التي ضربت واشنطن في سنوات أوباما، على خلفية الأزمة المالية العالمية، أو جرأته في تجاوز العديد من المبادئ التي طالما روجت لها واشنطن، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع بعض الملفات، على غرار الهجرة، واللجوء، والتي بات ينظر لها الأمريكيين بعين الانتقاد، تحت شعاره الشهير "أمريكا أولا".
وربما تبقى عودة ترامب مجددا إلى الساحة السياسية، بعد خسارته في انتخابات 2020، أحد أهم القضايا الجدلية، قبل الانتخابات المقبلة، ليس فقط لأنه سيكون أول رئيس سابق يخوض المعترك الرئاسي بعد خروجه من البيت الأبيض، ولكن ربما لشراسة المنافسة المرتقبة، في ظل استقطاب سياسي غير مسبوق بين الحزبين الأكبر في الولايات المتحدة، ناهيك عن حالة عدم اليقين حول مشاركة الرئيس بايدن ليكون ممثلا للحزب الديمقراطي، للحصول على فترة رئاسية ثانية، ليثور حديثا أخر عن معدل الأعمار المرتفع، لرؤساء الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الرئيس الحالي، حال مشاركته في الانتخابات المقبلة، سيكون قد تجاوز الثمانين بعامين، بينما سيكون ترامب على أعتابها، وهو ما يثير العديد من التساؤلات سواء بين الأمريكيين، أو المتابعين للشأن الدولي بصورة عامة.
ارتفاع معدل أعمار رؤساء أمريكا، ربما ليس جديدا تماما، وإن كان بايدن هو الأكبر على الإطلاق، وإنما ثمة رؤساء سابقين كانوا من أصحاب الأعمار الكبيرة نسبيا، عندما تولوا الرئاسة على غرار ترامب، في 2017، وريجان الذي بدأ ولايته وهو في الـ69 من عمره، وغيرهما، وحتى بوش الأب الذى تولى منصبه وهو في الـ65 من عمره، إلا أن الأمور لم تكن ملفتة للانتباه، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن ترامب كان فى 2017 هو أكبر رئيس أمريكي يتولى المنصب، وليزاحمه بعد ذلك بايدن، فى الانتخابات الأخيرة، وهو ما يثير التساؤلات حول ما إذا كان الجدل الثائر يدور في جوهره حول "شيخوخة" الرئيس أم المبادئ الأمريكية نفسها، والتي يبقى أبناء الأجيال القديمة هم الأقدر على الدفاع عنها.
في الواقع أن المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة في اللحظة الراهنة، ربما تتجاوز مجرد المرحلة العمرية للرئيس، أو الحاجة إلى تجديد الدماء، وإنما تتجسد في عدم قدرتها على تحديث مبادئها بما يلائم المرحلة الدولية الراهنة، والتي باتت مختلفة سياسيا واقتصاديا ودوليا عما سبقها من مراحل، وهو ما يفسر حالة الانقسام في الداخل الأمريكي، حيث تبدو الأوضاع الاقتصادية في الوقت الراهن مختلفة إذا ما قورنت بعدة عقود ماضية، بينما كانت الصراعات الدولية شبه محسومة لواشنطن على حساب خصومها، بسبب فارق الإمكانات الكبير على كافة الأصعدة، وبالتالي يبقى الاستمرار على نفس النهج الماضي، في الوقت الراهن، ضربا من الهراء السياسي، وبالتالي تعميم مبادئ التجارة الحرة، وقبول المهاجرين، والاقتصاد المفتوح، والدعم غير المشروط للحلفاء في أوروبا، وكذلك التدخلات العسكرية المباشرة، بمثابة سياسات غير مقبولة من قبل المواطن، رغم جذورها العميقة في السياسة الأمريكية، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة الرفض المطلق من قبل مؤيدي ترامب لفكرة خسارته في الانتخابات الماضية، رغم حالة السلاسة التي هيمنت على التغيير في مقعد الرئيس، لقرون طويلة، دون أي مشاهد عنف أو حتى احتجاجات في الشوارع.
وهنا يمكننا القول بأن الحديث المتواتر عن "شيخوخة" الرئيس، في الولايات المتحدة، ربما تحمل في طياتها، ليس مجرد عجز المرشحين للمنصب عن تقييم مدى لياقتهم للوفاء بالتزاماتهم في مثل هذا المنصب، وإنما عجز الإدارات المتعاقبة عن مجاراة الواقع، عبر الإصرار على تلويح بمبادئ الأربعينات، والتي عززها الانتصار في الحرب الباردة في التسعينات، في ظل مرحلة باتت تحمل إطارا تعدديا، مع صعود العديد من القوى الدولية التي يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، بينما شهدت اختلافا كبيرا على مستوى الداخل الأمريكي، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، ولو نسبيا، ومعاناة المواطن، جراء السياسات التي تبنتها الإدارات المتعاقبة، لخدمة أهدافها الدولية.