رغم أن الحداثة تزحف نحو الريف، وقد استبدلت بعض المباني القديمة العتيقة بأخرى أكثر حداثة وتطورا، ورغم تسلل الانترنت للريف الهادئ، إلا أن كل تلك المدخلات لم تؤثر بشكل كبير على الريف، خاصة الصعيد، الذي مازال يتمسك بعاداته وتقليده الرصينة حتى الآن.
خلال الأيام القليلة الماضية، تواجدت في الصعيد عدة مرات للمشاركة في واجب عزاء، ولمست بعض القيم الأصيلة الرائعة التي يتحلى بها أهالينا في وجه قبلي، حيث يشارك الجميع في العزاء فيكون من الصعوبة بمكان أن تعرف أسرة المتوفي، بنفس الدرجة التي يشاركون بها في الأفراح فيكون من الصعوبة معرفة أسرة العروسين.
فقدت قريتنا "شطورة" بسوهاج 3 شباب في عُمر الزهور، فشاهدت الجميع يتقاسم الحزن، فأفراح يتم الغائها احتراما للمتوفين، وشاشات تلفاز لا تعمل تقديرا لحزن الجيران، حتى الرجال يعزفون عن "حلق اللحية" لبضع أيام، تضامنا مع أسرة المتوفين، معتبرين أن حلقها نوعا من الزينة والفرح يجب أن يتوقف لحين انتهاء مراسم العزاء.
هنا في قريتنا الجميلة، لا تسمع مصطلحات خارجة أو ألفاظ نابية فوسط "خضار الزرع"، و"بياض القلوب"، تستريح أذنك، بهذه الألفاظ الراقية، والجمل المتناغمة، تسمع هذا ينادي على سيدة باسم ابنها الأكبر، وذاك يتحدث بصوت منخفض، وأطفال لا تردد سوى "نعم" و"حاضر"، وكلمات الاعتذار والآسف حاضرة بالتأكيد إذا وقع خطأ غير مقصود.
يتحرك قلبك فرحا وأنت تزور قريتنا في الجمعة، حيث العطلة الرسمية، وقد تجمعت الأسر، والأهل والأحباب يتسامرون ويتقاسمون الضحك، كضحكات المطر، تبلل بالحب روحهم، ويستمدون من أقاربهم قوتهم، فالشخص يحتمى بعائلته من أعاصير الحياة.
هنا الجميع يجتمع ويتحدث وجها لوجه، بدلا من التعامل من خلف جهاز أبكم، والتعبير عن الفرح والحزن بـ"ايموشن"، فلن تستطيع منصات التواصل الاجتماعى مهما تعددت، أن تكون بديلة لدفء أسرة تجلس حول "طبلية" واحدة، ولن يكون "كوميكس" بديلا، لضحكات صافية تخرج من القلوب ساعة تجمع أسري.
هنا يصنعون لأنفسهم أوقاتا سعيدة، يتغلبون على ظروف الحياة، يقتنصون منها ولو وقتا بسيطا، يجلسون مع من يحبون، يأكلون ويشربون ويضحكون ويتناصحون وينثرون السعادة بين الجميع.
هنا القناعة حاضرة، متمسكون بأذيالها، حياتهم قائمة على المحبة والمودة لا الخصومة والاختلاف، حتى اذا ما وقع الاختلاف كان بشرف لا يعرفه إلا الفرسان.
هنا كل شيء رائع وجميل، هنا الحياة الصفية النقية مثل قلوبهم الطيبة المتسامحة، هنا تشعر بالدفء والمحبة، حتى "حيطان البيوت" تشعر بأنها قائمة على حب، فقد حولوا حرارة الصعيد إلى حُب ممزوج بالقوة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة