خصص برنامج "عن قرب" بالقناة الجديدة "الوثائقية" التابعة "للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، والذى يقدمه الإعلامى (أحمد الدرينى) حلقتين لاستعراض سيرة الكاتب الكبير "وحيد حامد" في الذكرى الأولى لرحيله، واستعرض الفيلم آراء كثيرين ممن عملوا معه أو عاصروه، وعلى رأسهم الكاتب والناقد السينمائى "طارق الشناوي والفنانة يسرا والكاتب والسيناريست بشير الديك والمخرج مروان حامد نجل الكاتب الراحل والمخرج شريف عرفة وعصام زكريا الكاتب والناقد، واللواء فؤاد علام، نائب رئيس جهاز مباحث أمن الدولة سابقا".
وتطرق المشاركون فى الفيلم إلى سرد لتفاصيل سيرته ومسيرته التي لم يحظى بمثلها كاتب سينمائي مصري من قبل وتميزت بتفردها الشديد وكيف وظف وحياة حامد كتابته السينمائية في إعادة كتابة الواقع المصري على مختلف الفترات الزمنية وبعبقرية الحوار التي كان حامد يحرص على أن تجتذب المشاهد لتضعه في سياق الأحداث.
وقد فتح هذا البرنامج شهيتي للكتابة عن وحيد حامد الفريد في لغته وأسلوبه الساحر وخياله الخصب الذي ناقش أبرز قضايا الأمة المصرية في رحلته التي امتدت لأكثر من خمسين عاما ظل خلالها قابضا على جمر الحقيقة، مهما كانت قسوتها ومرارتها عبر سلسلة من الأفلام السينمائية والمسلسلات التيلفزيونية التي نمت وعي كتاب الدراما المصرية بداية من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى آخر أعماله (بدون ذكر أسماء).
عناصر وصفات كثيرة توفرت في السيناريست الكبير (وحيد حامد)، والذي يمثل في كتابة السيناريو أيقونة إبداع يزداد تألقها مع مرور الزمن، مثلها مثل جوهرة ماس تمنح ألقها أكثر كلما مستها بصمات السنين، وعلى الرغم من بلوغه 76 عاما، لم يرتد يوما ثوب الواعظ ولا الخطيب ولا سمسار الأخلاق أو تاجر السياسة، ولم يراهن طوال حياته إلا على الفن والفن فقط، منذ أن حمل مجموعته القصصيه القصيرة الأولى إلى الأديب الكبير يوسف إدريس، محملا بغبار قطار منيا القمح، وأشار "إدريس" إلى أن الدراما هى قدره وجنته وجحيمه ونوره وناره، يهدى بمصباحها الحيارى.
ومن هذا المنطلق اهتم (وحيد حامد) في مشواره مع الكتابة الدرامية بتقديم أعمال اجتماعية لها بعد وإسقاط سياسي كبير، حيث بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة والمسرحية في بداية مشواره الأدبي ثم اتجه إلى الكتابة للإذاعة المصرية، فقدم العديد من الأعمال الدرامية والمسلسلات، ومن الإذاعة إلى التليفزيون والسينما حيث قدم عشرات الأفلام و المسلسلات، وفضلا عن ذلك فقد قام بكتابة المقال السياسي والاجتماعي في أكثر الصحف انتشارا وحظى بجمهور واسع من القراء، وكذلك أشرف على ورشة السيناريو بالمعهد العالي للسينما لمدة أربع سنوات متتالية حيث تخرج على يديه عدد من أفضل كتاب السيناريو الحاليين، وباعتباره ليس مثقفا عاديا يرطن بالمصطلحات المعقدة، لكنه مثقف ملتحم بالناس، بسيط لدرجة استحالة التقليد من فرط تلك البساطة، يمتلك رادارا حساساً فى منتهى الدقة تجاه القضايا والظواهر التي تطرأ على المجتمع، لهذا يمكننا أن نطلق عليه (زرقاء يمامة الفن المصرى) من دون شك.
هناك تقنيات استخدمها كاتب السيناريو (وحيد حامد) صنعت لغته السينمائية والتليفزيونية الخاصة جدا، كالتركيب والتوليف وانتقاء المعلومات وتقسيمها والازدواج والتكرار والتنسيق والتكبير والتكوين والاتساق والانسجام والتحكم في المعلومات وتشابك الصور مع المكونات التقنية الأخرى وتوظيف الصور السينمائية البلاغية كالاستعارات والتشابيه وصور المقابلة والتضاد، وغير ذلك من وسائل تؤكد موهبته في كتابة السيناريو على نحو سهل وبسيط ومعبر ومؤثر في الجمهور، وفوق كل ذلك يعكس أسلوبه الخاصة ولغته في بلاغة مطلقة.
لذا يتبين لنا أن كتابة السيناريو عند (وحيد حامد) عملية صعبة وشاقة تتطلب جهدا كبيرا بالمقارنة مع كتابة المسرحية والرواية والقصة؛ لأن السيناريو يستلزم من كاتبه أن يكون محترفا متمرسا وعارفا بتقنيات السينما، وأن يكون مطلعا على آليات صناعة الفيلم وخفاياها وأسرارها وخدعها.
ولست هنا فى صدد تذكير الناس بأعمال الرجل الراسخة بقوة فى الذاكرة المصرية، والتى قدمها فى وقت كان الآخرون يناضلون بالرمز واللف والدوران، ويكفي مثلا أنه قدم أفلاما تعد علامات بارزة في السينما المصرية، ولهذا يعتبر وحيد حامد، واحد من أهم كتاب السينما والدراما في الوطن العربي، فلقد قدم أعمالا فنية على مدار 50 عاما تتمتع بقدر كبير من الموضوعية والجرأة والفن، كما كتب أكثر من 40 فيلما مثل (البرىء، الغول، المنسي، الإرهاب والكباب، دم الغزال، الوعد، النوم في العسل، طيور الظلام، والإرهابى، وعمارة يعقوبيان، واللعب مع الكبار، والهلفوت، والتخشيبة، وكشف المستور، المساطيل، إحكي ياشهرازاد، وقط وفار)، وكلها أعمال جاءت في توقيتاتها الصحيحة، بحيث كانت بمثابة جرس إنذار للمجتمع بهدف التحذير من آثام الجماعات المتطرفة، والاستغلال والنظرة المتخلفة في المجتمع تجاه ظواهر بعينها.
وقدم 5 خمسة أعمال مسرحية من أبرزها: (كباريه، يا عالم نفسى اتسجن، جحا يحكم المدينة)، وله دور بارز كما شاهدنا واستمتعنا عبر 15 عملا في الدراما التليفزيونية، من أبرزها مسلسلات (البشاير، العائلة، الدم والنار، كل هذا الحب، الرجل الذي عاد، أنا وأنت وساعات السفر، أوراق الورد، أحلام الفتى الطائر، الجماعة، بدون ذكر أسماء)، كما قدم 12 عملا دراميا إذاعيا، من أبرزها: (شياطين الليل، الرجل الذي عاد، الفتى الذي عاد، طائر الليل الحزين، قانون ساكسونيا، كل هذا الحب، بلد المحبوب، عاشور رايح جاي، الدنيا على جناح يمامة، بنت مين في مصر، عبده كاراتيه).
وإذا كان للدراما أهدافها الخاصة التي تبدأ بالمتعة والتسلية وتنتهي بالوصول لأكبر قاعدة من الجماهير، التى تقبل أو ترفض الابداع الفنى، فإنه بين ثنايا تلك الحالة يصعب على الفنان أن يقدم مضمونا فكريا له رؤية عميقة، وقلائل من ينجحون في خوض غمار تلك التركيبة دون فشل، ومن بين تجارب مؤلفين كبار فى تاريخ الدراما المصرية تبرز تجربة الكاتب والسيناريست وحيد حامد، الذي استطاع أن يجمع بين الرؤية العميقة، وتحقيق المتعة الفنية، وإرضاء الجمهور في آن واحد، ومن بين أهم المشاريع الفنية نتوقف عند تجربته الدرامية الرائدة في الكتابة عن التيارات الإسلامية وظاهرة السيطرة الدينية على المجتمع المصري بشكل سياسي، حيث استطاع أن يتناول الإسلاميين بمختلف تنويعاتهم في أعمال درامية سينمائية وتليفزيونية رسمت خطا عريضا لمدي التشابه والخيط الذى يجمع بينهم .
كما رصدت تلك التجارب العديد من الظواهر المرتبطة بذلك، والتي طفت على سطح المجتمع المصري، ما بين دعاة جدد، وفنانات يعتزلن لارتداء الحجاب وممارسة الدعوة، وسلفيين خرجوا من أعماق الريف ليسيطروا على ثقافة المجتمع، وبين تيارات سياسية تتخذ من الإسلام مشروعا للسلطة، وفي القلب من ذلك (جماعة الإخوان المسلمين)، وصولا لتناوله للتدين الظاهري الذي يتكسب به بعض المشاهير، وعبر ذلك كله شيد (وحيد حامد) مشروعا فنيا عظيما حاول من خلاله تفسير وتحليل إحدى أهم القضايا التي تشغل المجتمع المصري، وإحدى أزماته الاجتماعية والسياسية، وقدم رصدا فنيا وتحليلا عميقا لظواهر دينية كان لها تأثيرها على الخريطة الاجتماعية المصرية ليسبق بذلك الطرح جميع نظرائه من كتاب وصناع الدراما.
ولابد لي أن أشير إلى أن الدراما التلفزيونية المصرية ظلت لزمن تتجول بين الكلاسيكية والقصص النمطية البعيدة عن الاحتكاك بالسياسة والدين من جانب نقدي، حتي ظهر مسلسل (العائلة) الذى كتبه وحيد حامد، وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، وقام ببطولته الفنان القدير محمود مرسى والنجمة ليلى علوى والفنان الكبير عبد المنعم مدبولى عام 1994، والذى أنتج في ظل صعود الجماعات التكفيرية التي تبنت الإرهاب داخل المجتمع، وفي ظل رعب مجتمعي وتصاعد لمنابر المتشددين، ليناقش ظاهرة استغلال الجماعات المتطرفة للفقر واستقطاب الفقراء، وكان هذا العمل امتدادا لمشروع فني مستلهم من رؤية سياسية اجتماعية امتلكها (حامد) منذ بداياته وتلك كانت نقلة سيتبعها مشاريع أكثر عمقا وأشجع نقدا.
ثم جاء عام 2010 ليعرض لوحيد حامد مسلسل (الجماعة) وبالتحديد في يناير أي قبل أحداث 25 يناير بعام واحد فقط، والذي تناول فيه تاريخ جماعة الإخوان مؤسسها حسن البنا بالتفصيل، حيث قدم توثيقا تاريخيا ورصدا لأصل ذلك التيار السياسي الذي هيمن على الشارع المصري عبر مراحل طويلة من العمل الديني بالمدارس والجامعات والمساجد والجمعيات، ليحقق بعمل فني واحد ما عجزت مقالات وساسة ودراسات عن الكشف عن خطورته وأبعاده ، من خلال تناول دقيق لحقيقة تلك الجماعة وتوجهاتها وطرق سيطرتها على الشارع، ثم قدم الجزء الثاني من (الجماعة) في مايو 2017، بعد أن أدرك أن الجزء الأول لم يكن كافيا للإلمام بكل جوانب وتفاصيل تاريخ الإخوان والذى ركز فيه على سيد قطب ودعوته للعنف والتكفير، وبذلك يكون قد تصادم مع أبرز قيادات الاخوان إثارة للجدل كمرجعية للعنف السياسي وتكفير المجتمع، من خلال تجسيد شخصيته لأول مرة على شاشة التليفزيون.
توحي أعمال الكاتب (وحيد حامد) بتبني وجهة نظر الجمهور تجاه المجتمع ومشكلاته، وبالتالي تقف هذه الأعمال مع الفرد في مواجهة السلطة السياسية، وقد كانت التيمة الأكثر إلحاحا في أفلامه، وربما على السينما والدراما المصريتين في فترة السبعينيات ومرورا بالثمانينيات والتسعينات، هى الصراع بين عالمين تولدا من الشقاق الذي فرضه انفتاح السادات المباغت، ليسمح بصعود غيلان وسادة على أطلال من الخراب، دافعهم الأساسي هو الطمع والانتهازية، أشرار بشكل مطلق وكاريكاتيري، حتى أن فيلم (اللعب مع الكبار) إخراج شريف عرفة، يكتفي بتصويرهم كأشباح لا نراهم إلا عبر مكالمة هاتفية عابرة في كلام عابر.
وفي مقابل عالم السادة عند (حامد)؛ لابد أن تجد هنالك عالم آخر، تنسب إليه صفات جمعية، كالجدعنة والشهامة والترابط، أحيانا يتخذ أصحابه صورة (الفارس المثالي) الذي يخوض حربا دون كيشوتية كـ (فرجاني هدهود) في (آخر الرجال المحترمين)، أو انتهازي كـ (فتحي نوفل) في (طيور الظلام) أو إصلاحي، أو حتى في صورة واحد من العياق والشطار واللصوص الصغار اللذين يسرقون اللص الأكبر، كبطلي (أحلام الفتى الطائر، والمنسي)، كل هذه الصفات توحي بالتنوع، لكنه تنوع لا يصدر إلا عن (هوية قياسية) انشغل بها خيال الكاتب في تلك الفترة، هوية أسماها (المواطن المصري)، وربما لهذا نجح التعاون بين وحيد حامد وشريف عرفة (توأمه الفعلي) فكلاهما يتألق عبر رسم النمط الكاريكتيري الذي يلامس الفانتازيا في ثوب واقعي.
الكلام عن وحيد حامد الكاتب السياسي بسيط الجملة بالغ التأثير في الجماهير، والسيناريست المبدع الذي عالج أعقد مشاكلنا في مشاهد كاشفة ومبهرة، يحتاج لمجلدات كي يمكن أن توفيه حقه في تحليل مضمون رسائله الاجتماعية المغلفة بحس سياسي باعث على الشجن والوجع والرصد الواقعي الحي لظواهر أثرت وماتزال تؤثر في حياتنا المصرية، وفوق ذلك أثرت الوجدان المصري بانحيازها المطلق إلى بسطاء هذا الوطن من الحيارى والحزاني والمنسيون والمعذبون في الأرض، جراء الظلم الواقع عليهم بفعل قسوة الاستغلال من جانب السلطة تارة، والعنف والإرهاب والروتين القاتل بفعل تصاريف البشر تارات أخرى، وغيرها من أسباب تعتبر منغصات تقع دوما على عاتق الغلابة والمكلومين من أبناء هذا الوطن.. فتحية تقدير واحترام لروح المبدع (وحيد حامد) وأسعدك في آخرتك بقدر ما أسعدتنا بأعمال عظيمة ستظل تسكن الوجدان المصري على مر السنين والأيام.