التاريخ المصرى القديم مليء بالحكايات والأسرار التي لا تكشفها إلا القطع الأثرية القديمة والتي يتم العثور عليها ما بين الحين والآخر، لأنه من الصعب أن يرصد أحد تلك التفاصيل التي تمتد على مدار قرون طويلة سجلت بعضها على جدران المعابد في زمن الكتابة المصرية القديمة وأخرى لم تسجل بعد، ولكن تكشفها كنوز أثرية تخرج من باطن الأرض.
وبسبب ذلك نستعرض تاريخ الحضارة القديمة من خلال سلسلة متتالية لاستعراض ذلك التاريخ القديم، عبر موسوعة "مصر القديمة" لسليم حسن، وتحت عنوان "الأسرة السادسة"، يقول لم تكشف لنا الآثار للآن عن أصل قيام الأسرة السادسة، والظاهر أن ملوكها قد تولوا حكم البلاد من غير شبوب ثورات أو قيام خلاف كبير، وقد ظل فراعنتها على عرش الملك ما يقرب من قرنين من الزمان، ويظن أن مؤسسها هو الملك "سحتب تاوي تيتي"، ولا نعرف عن حكمه إلا الشيء القليل.
وقد علمنا التاريخ في كل العصور أن كل مؤسس جديد لا بُدَّ أن يكون رجلًا ذا بطش وقوة، ولكن قناع الوجه الذي عثر عليه الأثري «كويبل» بالقرب من معبد هرم «تيتي» في سقارة تدل ملامحه، على أن ذلك الملك كان رجلًا ناعم الخلق رقيق العاطفة إذا صح أن هذا القناع قد عمل شبيهًا لوجهه لا لإنسان آخر.
ويعزو المؤرخ «مانيتون» أصل هذه الأسرة إلى منف، وربما كان محقًّا في ذلك بعض الشيء؛ لأن الأسرة الخامسة كانت كل ميول ملوكها متجهة نحو عبادة عين شمس "الإله رع" أما ميول ملوك الأسرة السادسة الدينية، فكانت تتجه إلى عبادة الإله فتاح في منف.
وقد وصلت إلينا وثيقتان صادرتان عن كبير كهنة الإله فتاح في منف، وهما تدلان على أن الملك «تيتي» كان متجهًا بميوله إلى تنظيم كهنوت «فتاح»، وقام فعلًا بإصلاحات وتغييرات هامة في نظام كلية الكهنة، على حين أنه توجد كذلك لوحة في المتحف البريطاني نقشت عليها قصيدة من هذا العصر نسب فيها أصل كل ما ظهر وما خفي إلى الإله فتاح الإله الواحد الخالق لكل شيء، وكذلك عثر في سقارة على مقبرة لكاهن أعظم للإله فتاح في عهد الملك «وناس» اسمه «سابوابيبي»، وقد أخبرنا في نقوشه أنه خدم في عهد وناس «ثم أصبح اليوم في حضرة ابن الشمس تيتي» عاش أبديًّا، كاهنًا أكبر لفتاح، ومحترمًا من الملك أكثر من أي خادم آخر، وكاهن «فتاح» الأكبر وحامل كأس الملك، ورئيس الأمور السرية للملك في كل مكان.
ومن هذا يتضح أن الكاهن الأكبر للإله فتاح في العهد الجديد كانت له مكانة ممتازة قريبة من الملك، كان لا يمكن أن يصل إليها عندما كان نفوذ عين شمس سائرًا في البلاد. هذا إلى أنه عثر على تمثال للملك "تيتي" نقش عليه: "محبوب فتاح"، على أنه في استطاعتنا أن نستنتج من كل ذلك احتمال قيام حركة رجعية ضد سيطرة بلدة عين شمس ومحبذة لمناصرة مناظرتها منف مقر «فتاح».
ومما يؤسف له جد الأسف أن هرم "تيتي" قد نهبته اللصوص، إذ حرقوا كل ما في طريقهم إلى حجرة الدفن وهشموا الحواجز الجرانيتية.
وقد نقش على جدران حجرة الدفن سلسلة نقوش، كثير منها مطابق لما وجد في هرم «وناس». وهذه النقوش قد كتبت بحروف وإشارات أصغر حجمًا من التي وجدت في هرم "وناس"، ولم يفلت من يد اللصوص من جسم الملك إلا ذراع وكتف، وقد ذكر لنا "مانتيون" أن هذا الملك قد قتله الحراس، ولكن ليس لدينا ما يثبت ذلك، اللهم إلا أن الملوك الذين أتوا بعده لم يمكثوا على عرش الملك إلا فترة قصيرة، وربما كان سبب ذلك عدم استتباب الأمن كما يحدث عادة عند قيام عصيان في الجيش أو ثورات داخلية.
وفي عهد تيتي بدأ "وني" حياته، وهو يعد من أكبر الموظفين المصريين في هذا العصر، وقد عاش في عهد عدة ملوك، وقد دفن في «العرابة»، وترك لنا هناك على أحد جدران مقبرته أطول نقش عن حياة شخص، ويعد أهم وثيقة تاريخية وصلت إلينا من الدولة القديمة. على أن ما وصل إليه من علو المكانة قد بلغه في عهد الملوك الذين سيأتي ذكرهم بعد؛ إذ وصل إلى رتبة أمير وحاكم الجنوب وتشريفي، ونائب الملك في «نخن» وسيد «نخب» والسمير الوحيد.
وقد حدثنا «وني» عن نفسه في عهد "تيتي" قائلًا: كنت طفلًا لا يزال متمنطقًا الحزام في عهد الملك «تيتي»، وقد كانت وظيفتي مدير بيت الزراعة، وكنت أشغل وظيفة مدير ضِياع القصر الملكي.
وقد تلا حكم "تيتي" عصر غامض ربما كان سببه الاضطراب الذي حدث بعد قتله إذا صدقنا "مانيتون"، وكل ما نعلمه عن هذه الفترة أن قائمة الملوك ﺑ "العرابة" ذكرت لنا اسم ملك خَلَف "تيتي" لا نعرف عنه شيئًا مطلقا وهو "وسر كا رع"، على أننا من جهة أخرى عثرنا على نقش من هذا العصر في وادي حمامات لملك يدعي "إتي"، وقد جاء فيه أن موظفًا اسمه "فتاح أن كاو" جاء إلى هذه الجهة ومعه ٢٠٠ من الرماة و٢٠٠ من الحجاريين ليقطعوا أحجارًا لهرم الملك "إتي". وقد ظن بعض المؤرخين أن "وسر كا رع" و"إتي" اسم لملك واحد، ولا نعلم عدد سني حكم هذا الملك، ويحتمل أنه لم يخلف "تيتي"، إذ لم يذكره لنا "وني" ضمن الملوك الذين عاش في عهدهم، وبخاصة أنه ذكرهم لنا بالترتيب التاريخي، وربما كان عدم ذكره لسبب لا نعرفه.