لم يكن خبر وفاة الإذاعية الكبيرة فضيلة توفيق ( أبلة فضيلة)، هو مجرد خبر رحيل واحدة من أبرز جيل رواد الإذاعة المصرية في عصرها الذهبي ، لكنه نهاية لحقبة تاريخية للإذاعة المصرية وما غرسته من خيال ومتعة ورسالة نبيلة قامت بأدائها على مدى عقود باقتدار ونجاح كبيرين ، ثم جرى عليها ما جرى على بقية وسائل الإعلام من صحافة وتليفزيون من انحصار وتحجيم بسبب انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت والتفكك الإنساني الذي اتبعهما.
لم تكن أبلة فضيلة مجرد إذاعية قديرة أدت دورها بكفاءة ، لكنها استطاعت بتلقائية شديدة أن تتحول إلى أم ومعلمة وموجهة ومربية وصديقة لأجيال كاملة ، غرست فيها قيما وأخلاقا حميدة ببساطة ومقدرة دون تفزلك إو تعقيد وقبل عصر اللايف كوتش وخبراء العلاقات الإنسانية ، كنت أنا واحدة من هذه الإجيال التي كانت تصحو على صوتها وتستمع إلى كلماتها وتجد الخير والأخلاق والنجاة في وصاياها ونصائحها. كنت أصدقها بلا تردد ، وربما هي من علمتني أن أفكر كثيرا فيما أفعل ، وأن ألتزم الأدب والأخلاق ، وهي من كرهتني في صفة الكذب واللؤم ، وأشياء كثيرة كنت أتقبلها وجيلي بمحبة وثقة واستجابة ربما تفوق على استجابتنا لآبائنا وأمهاتنا.
لهذا حين أفكر في تلك السيدة التي حباها الله بتلك الموهبة الفريدة ، والتي ربما لم تتوفر لكثيرين غيرها أتعجب من تلك المقدرة الكبيرة التي استطاعت أن تنفع بها ملايين الأطفال على مدى عقود طويلة هي عمر برنامجها الشهير ( غنوة وحدوتة ) .
لكني أتساءل أيضا: هل لوكانت أبلة فضيلة قد قدمت برنامجها في عصرنا هذا هل كان سيلقى نفس التأثير والنجاح ؟ من المؤكد أن الإجابة بالنفي ! فالقيم التي كانت تبثها في هذا العصر لم يصبح لها وجود ، والآباء والأمهات قد تغيروا ، صحيح أنهم ربما يمنحون أطفالهم وقتا أكبر لكنهم يغرسون فيهم أيضا قيما تختلف تماما عن قيم عصر أبلة فضيلة ، حيث كانت الناس تتشابه والعائلات متقاربة ، والأخلاق واضحة والخروج عنها جريمة ، والكبير كبير له احترامه والصغير يستمع ويتعلم ويعتذر أو يتراجع ، أمور كثيرة قد تغيرت وتغير معها شكل الحياة.
فلم تصبح أبلة فضيلة وأمثالها من يربوا الأجيال ، لكن أصبح نجوم كرة القدم والمطربين الشعبيين وممثلين مبتذلين ، وإعلاميين وإعلاميات يسعون وراء الشهرة وليس وراء القيم والإخلاق ، ولا مانع في كل هذا أن يبثوا بين الناس أفكارا متدنية وقيما منحطة تجعل مما يقدمونه مجرد سلعة تبحث عن ربح أكبر ، ولا يهم ما تسببه رسالتهم الجهنمية من سوء وابتذال لمجرد تحقيق أرقام مشاهدة كبيرة !
برحيل أبلة فضيلة تطوى صفحة ناصعة من تاريخ الإعلام المصري ، والإذاعة المصرية تحديدًا ، التي وحدت الأمة العربية على صوت أم كلثوم وكبار مقرئي القرآن الكريم ورواد الإذاعة وكبار الفنانين في مصر ، هذا الجيل هو من حمل هذا العبء الكبير ونجح فيه نجاحًا مذهلًا ربما يدركه كل من جاب المغرب العربي غربا والعراق والشام شرقا ، كيف التفت الشعوب العربية حول ما تقدمه أصوات الإذاعة المصرية منذ عام ١٩٣٤ وحتى اليوم . وكيف شكلت الإذاعة المصرية وجدان أجيال بكاملها .
رحم الله السيدة الفاضلة والإذاعية القديرة أبلة فضيلة توفيق ، التي رحلت ورحلت معها الغنوة والحدوتة وبقيت سيرتها العطرة لجيلنا والإجيال التي سبقتنا .. رحمها الله .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة