في الوقت الذي تمثل فيه عملية "تشخيص" الحالة الدولية معضلة حقيقية، تساهم بصورة كبيرة في عجز المجتمع الدولي عن تقديم حلول لها، يبدو الهدف الذي يتبناه كل طرف من طرفي الأزمة من المعركة الدائرة في أوكرانيا "ضبابيًا" إلى حد كبير، نتيجة الاختلاف، ليس فقط بين الأطراف المتصارعة، وإنما أيضا داخل كل معسكر، وهو ما يتجلى بوضوح داخل الغرب الأوروبي من جانب، وبين أوروبا الغربية والولايات المتحدة من جانب آخر، في ظل خلاف حاد حول الكيفية التي يمكن أن يتحقق بها الانتصار على موسكو، والعودة بها إلى الوراء لسنوات عدة.
وللحقيقة، يبدو مفهوم الانتصار مختلفا في ظل معارك ربما لا تعترف بالأعراف التقليدية للحروب، على الأقل في نطاق زمني قصير أو متوسط، وبالتالي يبقى الحديث عن تحقيق المكاسب الإستراتيجية هو الأكثر واقعية، خاصة وأن الأزمة الأوكرانية ليست أكثر من "معركة" في صراع طويل الأمد، ليثور التساؤل حول الأهداف التي يسعى إليها الغرب، مع دخول الأزمة عامها الثاني دون حلحلة من شأنها استعادة أكبر قدر من التوازن والاستقرار التي تساهم لا محالة في ضبط الأوضاع داخل الدول الأوروبية، والتي باتت على حافة الخطر منذ اندلاعها، جراء أوضاع اقتصادية صعبة، تؤثر مباشرة على حياة ملايين البشر، وما ينجم عن ذلك من اضطرابات سياسية واجتماعية قد تعود بالقارة العجوز لعقود طويلة إلى الوراء.
ولعل الهدف الرئيسي الذي تتبناه أوروبا الغربية في المرحلة الراهنة هو وقف العملية العسكرية، والتوجه نحو مائدة المفاوضات، وذلك بالرغم من المساعدات الكبيرة التي تقدمها دول القارة للجانب الأوكراني، والتي ترتبط معظمها بالشق العسكري، حيث يبقى الهدف الرئيسي منها ليس سحق روسيا في ميدان المعركة، وإنما إرضاخها لوقف عملياتها، مع تحقيق "نقاط قوة" للجانب الأوكراني، خلال العملية التفاوضية، بمكن من خلالها إجبار موسكو على تقديم بعض التنازلات، سواء فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين البلدين، أو الأراضي التي سيطرت عليها، وهي النقطة التي يدرك الغرب أنه لا تفاوض بشأنها، من وجهة النظر الروسية.
ويعد إجبار موسكو على التفاوض، في الوقت الذي تحتفظ فيه أوكرانيا ومن ورائها الغرب الأوروبي بالصمود، في ذاته نقطة مهمة في المباراة السياسية، بين الجانبين، حيث يمثل رسالة مفادها احتفاظ الغرب، خاصة في الجانب الأوروبي منه، بثقله، وقدرته على المواجهة، رغم التحديات التي يواجهها، وعلى رأسها حالة التخلي الأمريكي عن الحلفاء في القارة العجوز، وما ترتب عن ذلك من حالة من الانقسام سواء في المعسكر الغربي بصورته الكلية، أو داخل أوروبا وحدها، ناهيك عن تراجع الدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد الأوروبي، إلى حد ظهور مقترحات تدعو إلى بناء تكتلات أوروبية جديدة، تضم كافة دول القارة، وعلى رأسها روسيا وأوكرانيا.
بينما يبقى الهدف الآخر، الذي يسعى إليه الغرب، هو تفكيك الارتباط القوي بين روسيا والصين، في ظل حالة من التكامل بينهما ربما تمنح "مفتاح" النصر لموسكو، وهو ما يبدو في قبول نسبي لدور بكين كوسيط، وهو ما يساهم في تحييد دعمها لروسيا، وهو ما يبدو في ضغوط مارسها الغرب على بكين لإدانة العملية العسكرية الروسية، في أوكرانيا، وهو ما رفضته وزارة الخارجية الصينية التي تتبنى رؤية تعتمد على ضرورة تهدئة مخاوف موسكو، جراء محاولات الغرب تطويقها، سواء عبر الاتحاد الأوروبي تارة أو الناتو تارة أخرى.
ورغم كل ذلك، يبقى وجود روسيا كطرف فاعل في المعادلة الدولية أولوية خاصة لأوروبا، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها تأمين احتياجاتها من الغاز، والغذاء، ناهيك عن تحقيق التوازن المفقود، خاصة مع تخلي واشنطن عن حلفائها، والذين أدركوا أن الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على النظام العالمي، ربما لم تعد تصب في كفتهم، وبالتالي تبقى موسكو طرفا مهما من شأنه تحقيق الاستقرار، وتقديم البديل لمحيطها الجغرافي في المستقبل.
وهنا يمكننا القول بان أهداف الغرب، وفي القلب منه أوروبا الغربية، ليست الانتصار بالمعنى التقليدي، وإنما تحقيق التوازن، على مسارين، أولهما قاريا، عبر تقديم القوى الأوروبية نفسها كقوى قادرة على مناطحة موسكو، دون دعم من الخارج (الولايات المتحدة) إلا في أضيق الحدود، بينما يبقى المسار الاخر مرتبطا بالتمهيد لعلاقة متوازنة مع روسيا والولايات المتحدة، بعيدا عن حالة الانحياز الصارخ لواشنطن طيلة العقود الماضية، والتي أثمرت عن سنوات الهيمنة، وانتهت بتراجع كبير للدور الذي يمكن أن تلعبه القارة العجوز على كافة الأصعدة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة