حبكة مُخطّطة ذهنيًّا، ببنية رمزية واضحة ومآلات مرسومة سلفًا كالمسائل الرياضية، هكذا يُؤسّس مسلسل «حرب» رهانه منذ اللحظة الأولى، متخلّيًا عن الواقعية الكاملة بأجوائها الإنسانية وتأثيراتها الوجدانية التى اعتمدتها كل الأعمال الشبيهة وتميّزت بها، وآخرها «الكتيبة 101» الذى سبقه فى العرض خلال موسم رمضان.
المدخل الأول لقراءة التجربة يبدأ من الاسم وسياق الطرح، فاعتماد «حرب» عنوانا مُجرّدًا للعمل مع ما تحمله دلالات النكرة من عمومية، ثم استكمال أجواء «الكتيبة 101» بمروحة علاقاته وأحداثه بين سيناء والقاهرة، وأن يُبنى العمل على 10 حلقات كأن غايته إكمال الموسم وخريطة العرض، كلها تُشير إلى حالة وإن بدت مُستقلّة بذاتها؛ إلا أنها تتصل بأعراف التلقّى اتصالا مباشرًا، وليس فى نفسها شىء خاص بقدر ما ستكون امتدادًا لجُملة سابقة.
تُفتتح الحكاية بمباراة «ملاكمة شطرنج» نكتشف لاحقا أنها بين صديقين أحدهما ضابط.. البداية رمزية تُلخّص فكرة صراع المخ والعضلات؛ فضلا عن ملمح آخر يخص الرياضة نفسها التى بدأ الحديث عنها أواخر السبعينيات، وتوسع خلال التسعينيات، وبدأت مبارياتها الدولية رسميًّا فى 2003 وما بعدها، وهو مسار يوازى ظهور وتصاعد الجماعات الحركية الإسلامية ونشاطها العنيف. البنية الرمزية تُلخّص حالة البلد الهادئ الآمن المحب للحياة والاستقرار فى شخصية رجل الأمن، وتُجمّع نواقص المتطرفين وأمراضهم فى شخص الإرهابى «عثمان/ أحمد السقا» الذى يقتل أمير تنظيمه ويقتل أخته ثم يهرب إلى ليبيا، ثم يعود ليقتل صديقه بعد تعاهدهما، ثم يُضحّى بابن شقيقته ويتزوج أرملته ويحقد على حبها له بعد موته، ويستمر فى تصفية رجاله أو يُوقع بعناصر مهمة منهم لإرضاء غروره فى اللعبة، وأخيرا يُسلّم المهندس بعدما صنع له الصواريخ لأنه خان صديقه الضابط.. كتلة ضخمة مُتعفّنة من العُقد والتناقضات والأمراض النفسية وانحطاط القلب والعقل، ومن نسيج تلك الحالة المُوغلة فى التكثيف والإسقاط تتفجّر دلالات الرموز!
يُؤسّس البطل الضدّ تنظيمًا إرهابيًّا باسم «الظافر»، وتلك الجماعة المُشار إليها لا وجود لها، وإنما ابتكرها المؤلف ليُمرّر من خلالها حبكته المُتخيّلة، وأغلب الظن أن العمود الفقرى للرواية يتصل بتنظيم «أجناد مصر» وقائده مجد الدين المصرى؛ إذ تتوافق انطلاقته مع المرحلة الزمنية محل التناول، كما عُرف باستهداف الشرطة وسيطر على عمله أسلوب التفخيخ وزرع العبوات، فضلاً عن الإشارة لاسمين يتّصلان بالمجموعة «همام ومالك» ويُقصد بهما على الأرجح همام عطية ومالك الأمير عطا، وقد تشكّل التنظيم فى 2013 ونفّذ تفجيرات فى ميدان لبنان ومحيط قصر الاتحادية عام 2014، فضلاً عن عمليات أخرى فى القاهرة وعدّة مدن؛ لكنه لم يكن مسؤولا عن تفجير قسم ثالث العريش 2015 الذى حلّ واحدا من أبرز أحداث المسلسل وكانت «أنصار بيت المقدس» قد أعلنت مسؤوليتها عنه، وهكذا يتداخل الواقعى والخيالى من مُفتتح الحكاية وعلى امتدادها.
رهان التجريد والرمزية لم يكن ممدودًا على استقامته؛ إذ بدا الأداء مُتراوحًا بين التمثيل والتقمّص.. انغمس محمد فراج فى شخصيته مُتبنيًّا منطقها ومُخلصًا له بالكامل، بينما كان أحمد السقا مُنفصلاً عن «الشيخ عثمان»؛ ليس فى انشقاقه الواضح أدائيًّا عن مرجعية الشخصية ودوافعها، وإنما فى قلّة الإحكام لترجمة انفعالاتها ونقل مشاعرها؛ فكان أداؤه باردًا مُحايدًا بخمول لا يُناسب لياقة إرهابى مُتمرّس، مع روتينية ميكانيكية فى الحركة والتعابير كأنه «روبوت»، وتكرّر الأمر مع بعض الشخصيات الرئيسية وضيوف الشرف؛ لعل هذا المسلك الأدائى يُفيد فكرة الرمزية والتعميم من زاوية أنه يُفكّك النماذج البشرية مُلتمسًا ما فيها من مشتركات صالحة لإعادة القراءة فى قصص وصراعات أخرى، ويُحوّلها إلى أفكار وتمثّلات اعتقادية وحركيّة مُجسّدة بصريًّا؛ فيُجرّد شخصية الإرهابى إلى حالة من التناقض والعلل النفسية والسلوكية أكثر من كونها نموذجًا بشريًّا طبيعيًّا، لكن هذا الرهان قد يهزّ مُعايشة المتلقى للحكاية ويخصم من فعلها النفسى، ومن طاقة الإدانة أو التطهير، ولعلّ ذلك ليس الأثر المقصود بالمرّة!
الاندفاع وراء تجريد الحكاية من عناصرها الإنسانية، وترشيد أثر الواقع لأقصى مدى؛ بُغية صناعة نموذج رمزى مُكثّف وشامل، قد يتسبّب أحيانًا فى إسقاط بعض العناصر المرئية والسرديّة المُقنعة، كأن يُقدّم ياسر على ماهر بصريًّا برتبة عميد ثم فى المشهد التالى لاغتياله يُعرّفه «عمر/ محمد فراج» باللواء، أو تتمادى الهندسة الذهنية لرُقعة الشطرنج فى استهلاك التوابل والمُشهّيات فتجعل قائد التنظيم يُضحّى بقناص ماهر كان يتطلّع لضمّه إلى صفوفه منذ فترة طويلة؛ لا لشىء إلا أن ينصب كمينًا فاشلاً للضابط، بعدما تحوّل صراعهما إلى خصومة شخصية يندفع فيها رجل الأمن بسخونة وغيظ، ويتخلّى الإرهابى عن جُبنه وتخفّيه بل ربما يبادر بإحراق أوراقه مجانًا!
هانى سرحان سيناريست موهوب، والحكاية واعدة وكانت تُبشّر بما هو أكبر، وربما يعود الأمر إلى انشغاله خلال رمضان بعمل آخر كبير ومرهق فى تفاصيله مثل «سوق الكانتو»، ولعلّه تصدى للتجربة انطلاقًا من خبرته مع هذا العالم بعد تجربته اللامعة فى جزأين من ثلاثية «الاختيار».. بقيّة العناصر الفنية لعبت فى الحيّز الآمن وفق ما يسمح به رهان العمل وظروف الموسم، فجاء الديكور بسيطا ومُعبّرا لكنه ألمح إلى فرز طبقى بين فريقى الصراع ولم يُبرز أحيانا تفاوتات الانتقال فى الزمان والمكان، وكانت الأزياء والاكسسوارات اعتياديّة قدّمت غلافًا واقعيًّا للصورة لكنها لم ترسم ملامح مُميّزة للشخوص فى تراكيبهم النفسية وتفاوت مستوياتهم الاجتماعية، ولعبت الموسيقى وميكساج شريط الصوت دورًا فى التشويق ونقل أجواء التوتر والسباق اللاهث بملمح بوليسى يُخالطه الغموض مع لمسةٍ قاتمة نفسيًّا، بينما قدّم المونتاج إيقاعًا مُنسابًا وإن تباطأ فى بعض المشاهد الحوارية ولقاءات الأُسر والتحقيقات، ولعبت الصورة على البنية الرمزية فى تقابل الكادرات المفتوحة المضيئة والمُشبعة بالألوان فى تفاصيل الحياة اليومية لجانب الأمن وعائلاتهم، مع تكوينات يغلب عليها شحّ الإضاءة وخفوت الألوان ورماديتها مع مشاهد الإرهابيين، وأدار المخرج أحمد جلال عناصره بما يُحقّق حدًّا معقولاً من الفُرجة المُشوّقة مع التعبيرية والإيحاء وفق لعبة التجريد والرمز.. باختصار، كانت المعالجة البصرية والسمعية مُخلصةً لفكرة الحرب باعتبارها سؤال هوية ووجود، لا تجسيدا لقطاع أفقى مأخوذ من طبقات الحياة العادية!
مسلسل «حرب» تجربة درامية تستحق التوقُّف؛ أوّلاً فى العودة إلى ضبط الدراما وفق احتياجها لا حسب مُتطلّبات العرض، نزولا إلى 10 حلقات قد تتقلّص مُستقبلا إذا احتاجت القصص ذلك، ثم الذهاب إلى تفكيك سرديّة الإرهاب المُعقّدة وتناولها عبر حكايات ومُعالجات مُوجزة الشخوص والتفاصيل، والتحوّل من الواقعية الخالصة برهانها التسجيلى إلى إعمال الخيال والقراءة النقدية فى بنية الصراع التى باتت واضحة تماما؛ سعيًا إلى مُقاربات مُعمّقة تُحقّق الكشف والتعرية والحفر فى سيكولوجية التطرُّف والعنف.. بدأت الرحلة باستكشاف مُدوّنة الإرهاب على اتساع الخريطة وسنوات القلق، ثم اتّجهت الآن لإدارة اللعبة على رقعة شطرنج فى سياق «مكانى وزمانى» مُحدّد بقصدٍ وعناية، وهو رهان أصعب؛ لكنه قادر على التطوُّر والنضج كلما انتهى أحد أدواره المُكثّفة ومُحكمة الفكرة بـ«كش.. مات».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة