بعد يوم عمل طويل مرهق، ضاعف من ثقله قلة ساعات النوم التى حظيت بها فى الليلة السابقة، وصلت أخيرًا إلى سريرى فارغة تمامًا من الطاقة، قررت أنه لا شىء أهم فى تلك اللحظة من نوم عميق لساعات طويلة تشحذ طاقتى. أطفأت الأنوار. كتمت صوت الهاتف. واستلقيت في فراشي وقبل أن أغرق في النوم تذكرت أنني لم أضبط المنبه لليوم التالي. التقطت الهاتف وأنا عالقة بين النوم واليقظة، حينها انتبهت إلى وجود الكثير من الإشعارات والرسائل على مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي من عشرات الأصدقاء الذين لا تربطهم ببعضهم أي علاقة.
توجست لثوان لكن بمجرد أن طالعت الإشعار الأول فهمت كل شيء: "توم هانكس في مصر!" قبل أن أهز رأسي هازئة وأنا أتذكر صوره القديمة في الغردقة التي انخدعت بها قبل سنوات ثم اكتشفت أنها التقطت فى 2014، لطمني الجزء الآخر من الخبر "ويتناول أكل مصري في مطعم بالزمالك وهذه صورته" تمتمت لنفسي "فوتوشو...." لا لن نمنحك فرصة للتشكيك في صحة المعلومة، إليكِ مقطع فيديو. إنه هو بالفعل! هذه ملامحه، شعره الأبيض، نظارته، ضحكته المميزة، وهذه ريتا ويلسون زوجته إلى جواره! من الصعب تزييف كل هذه التفاصيل في مقطع فيديو واحد رديء الجودة!
توم هانكس في الزمالك
قفزت من السرير واشتعلت حماسًا. هل يحدث هذا فعلاً؟ توم هانكس هنا! نجمي المفضل لم يعد حلمًا مستحيلاً في قارة أخرى بل إنه هنا، بيني وبينه خطوتين وربما يحالفني الحظ وأراه من بعيد! أو تحدث معجزة وأكون واحدة من هؤلاء المحظوظين الذين التقوه صدفة، والتقط معهم صورة بابتسامته الساحرة وتقطيبته المميزة في صور السيلفي! بل ربما بعشوائيتي المعهودة أفقد أحد أغراضي في الشارع - ولأنه الآن ليس في قارة أخرى - وربما يمر من نفس الشوارع التي أمر بها، يمارس هوايته الغريبة، المحببة إلى قلبي، ويلتقط له صورة أو ربما يقرر الاحتفاظ به ويصبح أحد أغراضي بقربه!
تبخر النوم وأنا أحاول استيعاب الصدمة. شاركت الخبر مع أصدقائي بهيستيريا وكأنني أحاول التأكد أنه حقيقة. "توم هانكس في مصر!" "بجد؟ يمكن إشاعة" أرسل الفيديو فتنتقل إليهم عدوى الدهشة والحماس. هل يتحقق أخيرًا الحلم الذي طالما شاركته مع المحيطين بي كأمنية مستحيلة؟ يعرف أصدقائي أنني معجبة ـ إلى حد الهوس ربما ـ بتوم هانكس. فرغم أنني غادرت مرحلة المراهقة منذ سنوات إلا إنه النجم الوحيد الذي أعلق له صورة بغرفة نومي وأخرى في مكتبي وأقابله في عدد لا نهائي من الأحلام بسيناريوهات مضحكة وغير منطقية!
توم هانكس
لا أتذكر متى بالتحديد شاهدت فيلمه الأول. إلا أنني أتذكر أنه كان فيلم "فورست جامب". قررت مشاهدة الفيلم ضمن خطتي الطموحة لمشاهدة جميع الأفلام الحائزة على جوائز الأوسكار سنة بسنة. أتذكر جيدًا أنني لم أتحمس له في المحاولة الأولى. ثم عدت لمنحه فرصة أخرى، ربما كنت وقتها في مزاج أفضل أو أنني لحظتها فقط كنت جاهزة لدخول عالم توم هانكس. وقعت في غرام الفيلم تمامًا. ثم في غرام جميع أفلام توم هانكس. بدأت المشاهدة واحدًا تلو الآخر. وفي كل مرة أعيش نفس المشاعر تقريبًا، وكأنني أنتمي لعالمه بالكامل. وأقول هنا "عالمه" لأن الأمر لا يتعلق فقط بتوم هانكس وإنما بالتوليفة المرتبطة بأفلامه. سحر الأشخاص الذين يبدون عاديين ولكنهم ليسوا كذلك. سحر التفاصيل الصغيرة / الكبيرة التي تدهشك حين تدقق فيها. سحر المشاعر العميقة الصادقة والمربكة التي تغرق فيها في كل فيلم والتعاطف الذي يتعاظم داخلك تجاه كل شخصية حتى لو كنت مختلفًا كليًا مع أفكارها! وذلك الشعور بأن شيئًا داخلك ـ مهما كان صغيرًا ـ اختلف بعد أن شاهدت الفيلم.
شاهدت تقريبًا كل أفلامه التي وجدت لها ترجمة عربية. ووضعت القليل المتبقي على قائمة المشاهدة لاحقًا، إلى حين تتحسن إنجليزيتي أو يتفضل أحد المترجمين بالاهتمام بها، أيهما أقرب. رأيت فيه إخلاص ورومانسية وبساطة فتى الأحلام، ورأيت نفسي فيه حين كان ذلك الطفل المرتبك التائه الذي وجد نفسه فجأة في عالم الكبار، ورأيت نفسي فيه مرة أخرى حين كان ذلك الرجل الضائع الوحيد على جزيرة مقفرة، يحاول التمسك بأي أمل ضئيل كي يحيا ولا يفقد عقله، حتى أنني اخترعت "ويلسون" الخاص بي في رسائلي إلى رفعت. رأيته أبًا مذهلاً وصديقًا جيدًا وشخصًا بارعًا في عمله مخلصًا له حتى لو كان عمله هذا هو الدفاع عن "جاسوس العدو" طالما أن وطنه كلفه بذلك.
لم تعد تكفيني مشاهدة أفلامه، أحببت أن أعرف المزيد عن هذا الشخص الذي رأيته يكبر أمامي في الأفلام وكأنه صديق قديم بيننا عشرة عمر. عرفت أكثر عن حياته، عن قصة حبه الرائعة والزواج طويل الأمد الذي جمعه بريتا ويلسون. انهمرت دموعي وأنا أقرأ تصريحها عن تلك اللحظة التي أخبرها فيها ببداية علاقتهما "أريدك أن تعرفى فقط أنك لن تضطري إلى تغيير أي شيء فيكِ كي تكونى معي". دعمه لها مهنيًا وفخره بها، ومساندته لها في معركتها مع سرطان الثدي، والأهم من ذلك أنه لم يعتبر نفسه بطلاً لأنه فعل ذلك ولم يباهي بذلك في كل مكان وإنما عبر بصدق عن انبهاره بشجاعتها وقوتها لأنها انتصرت على المرض في وقتٍ قصير.
واصلت الغرق في عالم توم هانكس، فابتسمت من قلبي حين تابعت حسابه على تويتر وإنستجرام، هوايته الغريبة / الطريفة في التقاط الصور لتلك الأشياء التي يفقدها الغرباء في الشوارع. قفاز وحيد، فردة حذاء، جورب، قبعة. هذه الأشياء الوحيدة لا تظل وحيدة بعد أن يلتقيها ذلك النجم الظريف فيلتقط لها صورة ويتخيل لها قصة ويشاركها مع متابعيه. بدأت أعرف المزيد عن الأشياء المشتركة بيننا، كحب الكتابة، والغرام بالآلات الكاتبة، ثم شاهدت عشرات المقابلات له وأعجبتني خفة ظله ولطفه مع الآخرين، وتلك المقاطع العشوائية التي التقطت له في الشوارع حين مر بحفل زفاف في حديقة أو حين التقى شخصًا نائمًا والتقط معه صورة وغيرها وغيرها من المواقف الطريفة والعفوية التي رسمت ابتسامة عميقة على وجهي وجعلتني أحلم لو أنني يومًا ألتقيه رغم أنني دائمًا ما أتجنب لقاء المشاهير الذين أكن لهم إعجابًا لأنني من جهة أخاف أن أصدم فيهم، ومن جهة أخرى أشعر أنني لن أضيف له معلومة جديدة لو عرفوا أنني أحبهم. فضلاً عن أنني لا أحب أبدًا اقتحام خصوصيتهم أو التطفل عليهم وإزعاجهم.
"لو هو في الزمالك فعلاً إحنا لازم ندور عليه" قالها صديق حين شاركته الخبر، وأنا كنت للتو كتمت تلك الفكرة داخلي إذ شعرت أنني سأكون معجبة مهووسة غريبة الأطوار ومثيرة للشفقة لو فعلت ذلك، واستحضر ذهني فورًا صورة "سمير سبوت". شجعنى: "ستكون قصة صحفية جيدة لو أنك شاركتِ الناس رحلة البحث عنه، سواء نجحتِ في الوصول إليه أو لا" شعرت لحظتها أنني لن أكون معجبة مهووسة تمامًا لو أنني نفذت الفكرة.
عدت لمقطع الفيديو المنشور على تويتر مرة أخرى، فالعالم الافتراضي أضيق من ثقب الإبرة وربما شاهده آخرون في مكان آخر. شعرت بالغيظ من صاحب الفيديو لأنه انتظر حتى اليوم التالي لينشره. ثم عذرته لاحقًا فلو كنت مكانه ربما لم أفق من صدمة أنني في نفس المكان مع توم هانكس إلا بعد أسبوع! فضلاً عن أنني بالتأكيد لن يخطر ببالي أن ألتقط له صورة أو فيديو، ليس فقط من وقع الصدمة وإنما لأنني أكره فكرة التقاط الصور / الفيديو لأي شخص دون إذنه المسبق أو اللاحق.
توم هانكس في مصر
تتبعت التعليقات على الفيديو فلم أجد أثرًا لمحظوظين آخرين التقوه لا فى المطعم المذكور ولا فى مكان غيره. لكن بعض التعليقات رجحت أن يكون مقيمًا في فندق شهير يبعد مسيرة 10 دقائق بالأقدام عن المطعم. بدا التخمين منطقيًا، فهو فندق عريق وفاخر وتتمتع بعض غرفه بإطلالة بانورامية على نهر النيل، كما أن طابعه التاريخي وديكوراته الشرقية تشبه أجواء المطعم الذي اختاره لتناول الطعام المصري الأصيل.
وضعنا الخطة المرتجلة بحماس: يمكن أن نزور الفندق كضيوف عاديين لقاعات المؤتمرات، ونحاول الاستفسار من العاملين هناك إذا ما كان مقيمًا في الفندق أم لا. إذا لم ننجح في العثور على إجابة يمكن أن نزور المطعم الذي تناول الطعام فيه ونعرف أكثر عن الزيارة وربما حالفنا الحظ وعرفنا في أي مكان يقيم أو ما هي محطته التالية في أرض المحروسة. بحلول موعد تنفيذ الخطة كانت مصادر في وزارة السياحة أدلت بتصريحات عن الزيارة وتعليقات السوشيال ميديا الكثيفة عليها. وأوضحت أنها زيارة شخصية للنجم وعدد من أصدقائه وأفراد أسرته وأنه يرفض خلالها إجراء أية لقاءات إعلامية وأوصت محبيه باحترام خصوصيته خلال الزيارة. فتر حماسي قليلاً. فذلك المبرر بأنني أسعى وراء عمل صحفي لم يعد مرضيًا لضميري. قررت المضي قدمًا في الخطة مع التعهد بأنني إن وجدته لن أزعجه.
المحطة الأولى في رحلة البحث عن توم هانكس في القاهرة كانت في الفندق الشهير. العامل الأول الذي سألناه عن صحة الشائعة التي تتردد بأن توم هانكس يقيم بالفندق نفى بتهذيب أي علم بها، وأكد أن هذا يوم عمله الأول بعد عطلة العيد لذا لا يمكنه التأكيد أو النفي. دققت في لغة جسده وصوته، بدا صادقًا فيما يقوله. وبدأ الإحباط يتسرب إلى قلبي قليلاً، فحتى لو كان في عطلة وكان النجم مقيم بهذا الفندق ومع كل هذا الزخم على السوشيال ميديا حول زيارته كان لابد وصلته بعض الأنباء.
نصحنا بأن نسأل في الاستقبال لكننا ندرك عدم جدوى المحاولة فلن يفشي أحد موظفي الاستقبال أبدًا أى بيانات عن أحد المقيمين حتى لو لم يكن واحدًا من المشاهير الذي يشدد على احترام خصوصيته. في محاولة يائسة جلسنا في واحدة من كافيتريات الفندق. طلبنا مشروبًا لنكون ضيوفًا عاديين. وكررنا المحاولة مع النادل الذي نفى بضحكة سريعة حقيقة الشائعة وقال إن النجم لا يقيم بالفندق. تحيرت في الحكم على إجابته، وكذلك العامل الأخير الذي حاولنا سؤاله بشكل عابر عن صحة الشائعة. فسرعة النفي مع الضحكة وعدم الاندهاش لسماع الشائعة أو الاسم أثارا شكوك المحقق بداخلي.
انتقلنا إلى المطعم. وخفق قلبي كمراهقة حين شعرت أنني الآن أشارك نجمي المفضل مشهدًا رآه وعاشه منذ أيام قليلة. هل أبدى إعجابه بالحي الهادئ؟ هل لفتت نظره أو ربما نظر ريتا العباءات المصرية الشعبية المعلقة في المحل المجاور للمطعم؟ هل فكروا في إلقاء نظرة واقتناء واحدة؟ على باب المطعم الخشبي الطويل بددت الرائحة الشهية للملوخية كل الأسئلة. وعرفت فورًا سر اختياره لهذا الطبق في القائمة.
سارة درويش داخل المطعم
قررنا أن نعيش التجربة كاملة. لسوء الحظ لم تكن الطاولة التي جلس عليها شاغرة. المطعم كله كان مزدحمًا جدًا لدرجة أن هناك قائمة انتظار. لا أعرف هل هذه طبيعة المكان لأنه واحد من المطاعم الشهيرة والعريقة أم أن هذه توابع الزيارة. لم تضيع التجربة بالكامل فأول طاولة متاحة كانت مشابهة تمامًا للطاولة التي جلس عليها مع ضيوفه. بعد الغداء تحدثنا خفية إلى أحد العاملين بالمطعم. لحسن الحظ كان موجودًا وقت الزيارة.
كشف أن هذه الزيارة لم تكن مفاجئة وإنما هناك حجز من أجل توم هانكس منذ شهر كامل، إلا أن الإدارة حافظت بشكل كامل على سرية المعلومة ولم تخبر حتى العاملين إلا وقت الزيارة. كان عاملاً بسيطًا لم يتعرف على النجم إلا إنه أدرك من الأجواء ومن الضجة المثارة لاحقًا أنه شخص مهم. وأكد أنه كان بصحبة نحو 18 فردًا، ليسوا حرسًا خاصًا وإنما جاءوا بصحبته، أهمهم كانت زوجته وامرأة أخرى لم يتعرف عليها. أثارت المعلومة فضولي وربما أملي بألا يكون كل هذا العدد الكبير من المرافقين ليسوا مجرد أصدقاء أو أقارب وإنما بعضهم جاء معه لأجل عمل قريب في مصر؟ ربما!
أثلج صدري ما قاله العامل عن أنه لم يبد مغرورًا أو متغطرسًا وإنما بدا له شخصًا لطيفًا وتلقائيًا وأنه كان مهتم بمعرفة التفاصيل عن الأكلات التي يتناولها. شيء ما داخلي اطمأن بعد تعليقه، أن ذلك الشخص اللطيف الذي تعلقت بفنه وشخصيته، والذي رأيته في المقابلات التلفزيونية ولمحت روحه خلف كتاباته ليس مجرد صورة زائفة أمام الكاميرات رسمها بدقة محترفو العلاقات العامة لأجله!
بالطبع لا يعرف العامل بالمطعم أي شيء عن محطته التالية ولا الفندق المقيم به. غادرت المطعم وقد تركت خلفي كل أمل في أن أعثر عليه، إلا إنني لم أكن تعيسة ومحبطة كما كنت أتوقع من نفسي كلما تحمست لشيء ولم أوفق في تحقيقه. واساني قليلاً أنني حاولت. وواساني أكثر أنني أعرف أن نجمي المفضل يتحقق له ما طلبه: زيارة شخصية ممتعة في مصر. غادرت وجزء داخلي يبتسم لأنه اختار بلدي ليقضي فيها وقتًا هادئًا بصحبة أحبائه، وأصبحت قانعة بأنه على الأقل يجمعنا النطاق الجغرافي ذاته، وأنه تذوق طعامًا أحبُه وأحَبّه، وأنا اؤمن تمامًا أن الطعام ـ بالذات في مصر ـ لغة حب!