أيام قليلة تفصلنا عن انطلاق الحوار الوطنى رسميا، بعد شهور من التحضير لتمهيد الأرض وترتيب طاولة اللقاء.. الجميع يتطلعون إلى ما يمكن أن تنتجه التجربة، والظاهر أن المقدمات تحمل بشائر إيجابية؛ انطلاقا من القبول الحسن للدعوة، والتعاطى معها إيجابيا، وبذل الجهود من أطرافها بغية القفز على التحديات.. يبدو المشهد العام محفزا، ويتبقى أن تدار التفاصيل بالقدر نفسه من الوعى والتفهّم، لا سيما أننا إزاء مرحلة لها طبيعة خاصة إلى درجة تُوجب على المشاركين التحلُّل من إرثهم القديم، وتنحية الأيديولوجيا جانبًا، لبعض الوقت على الأقل، وولوج العتبة الجديدة بمنطق التكامل وتوفيق الرؤى لا بصيغة المُغالبة وتنازع الإرادات.
سنة بين دعوة الرئيس السيسى للحوار وآخر اجتماعات مجلس الأمناء تمهيدا للانطلاق، ثلاثة وعشرون لقاء جمعت ضياء رشوان ورفاقه التسعة عشر من كل التيارات، أفرزت هيكلا متينا ولائحة عمل وتمثيلا عريضا لا يغيب عنه أحد تقريبا، باستثناء من رفعوا السلاح فى وجوهنا جميعا واختاروا أن يكونوا خصوما للدولة، بمعناها العام كسلطة ومُؤسَّسات ومجموع شعبى، الآن يبدو مجلس الأمناء أكثر تجانسا عما كان عليه وقت تشكيله فى يونيو الماضى، ولدينا ثلاثة محاور عامة تندرج تحتها تسع عشرة لجنة بإجمالى أربعة وأربعين مُقررا ومقررا مساعدا، وننتظر جلسة موسعة يتوقع لها أن تكون حاشدة الأربعاء المقبل، والمؤشّرات المُعلنة حتى اللحظة أن كل الأطراف راضون عمّا آلت إليه الأمور؛ حتى لو أثيرت أسئلة بشأن الجدول الزمنى، فإن الروافع الأساسية للحالة لم تشهد خلافا جذريا معطلا، وتظل مسألة الوقت نسبيّة فى تقييم أبعادها؛ إذ قد يغيب عن البعض أننا بصدد إنعاش مسار اتّصال عطّلته الظروف طويلا، وربما كان الإقبال عليه باستعجال أخطر من التروّى فيه، على الأقل حتى نتلمّس المشتركات ونصيغ لغة واضحة ومفهومة لكل الأطراف، بما يسمح بإدارة الاختلافات وتذويبها لاحقا بقدر أقل من الجهد والاشتباك.
ربّما يسأل البعض، والمقام يستوعب كل التساؤلات: هل كان الإعداد للحوار يتطلّب سنة كاملة؟ نظريا قد يرى فريق أن جمع حشد من الناس إلى طاولة واحدة لا يحتاج إلا دعوات وموعدا ومكانا فسيحا؛ لكن إنفاذ الفكرة عمليا ليس بتلك السهولة البادية.. المدخل أننا عشنا حالة ارتباك عميقة مع حكم الإخوان، وفى الخروج منه، وما تلاه من فوضى وإرهاب، فرضت اللحظة شروطها على الجميع، فمنهم من عمل إلى جانب المؤسَّسات فى رحلة طويلة وشاقة لتثبيت الدولة واستعادة الاستقرار، وفيهم من آثر التزام الصمت، لم تكن الساحة وقتها جاهزة لإدارة اللعبة السياسية بمنطقها القديم، بينما يختلط اللاعبون ويخترق الخصوم جدراننا الهشَّة من الداخل قبل الخارج، تطلّب الظرف الوجودى الوصولَ بالبلد إلى برِّ الأمان أوّلا، وتنحية الاختلافات الأيديولوجية التى رآها العوام وقتها من قَبيل الرفاهية، هكذا تحرّكت الدولة فى إطار رؤيةٍ رسمها الشارع، وهى نفسها التى عادت لاحقًا لتدعو إلى الحوار بعدما أنجزت استحقاق الأمن.. أن تأتى الدعوة من القيادة السياسية فإن فى ذلك دلالةً مباشرة على أن الإيمان بالحوار لم يسقط ولم يكن منسيًّا؛ إنما كان فى حاجة لسياق مُنتظم حتى يكون حوارا فعلا، وعلى أرضية وطنية خالصة وواضحة المعالم، وليس فى إطار تحالفات قديمة أو تصارع قُوى أو صيغ محملة برواسب فترة التوتر.
افتقدنا حالة الحوار قبل يناير 2011، وتعمّق الفقد بعدها حتى يونيو 2013، لا سيما فى سياق من السيولة والمناورات وألاعيب الساسة وتبدّل تحالفاتهم، ثم تعالت أصوات الرصاص والتفجيرات لتغطّى على كل صوت آخر، هكذا لا يمكن القول إننا نستعيد حوارًا فقدناه فى السنوات الأخيرة، بقدر ما نُؤسِّس لحالةٍ جديدة لم نعرفها من قبل، إذ لم تكن موجودة لا بعد 2011 ولا قبلها حتى نبحث عنها فى 2014 وما بعدها.. هذا التأسيس يشترط وعيًا عميقًا من الجميع بالذات والآخر، وقبولاً حقيقيًّا للاختلاف، وإيمانًا بأن لا أحد فينا يمتلك الحقّ المُطلق أو يُقدِّم الوصفة المضمونة؛ وانطلاقًا من تلك القاعدة فإنّ حرث الأرض وتجهيزها أهم من تعجُّل نثر البذور، فلا معنى لأيّة زراعة قبل تطهير الحشائش والآفات، لهذا طالت فترة التحضير حتى يلتقى الجميع على فلسفة واحدة وطريقة عمل تُناسب السياق، وتضمن أن نحصد شيئًا، لا أن نخرج من الموسم الذى طال انتظاره كما دخلناه!
فى البداية سعى فريق لاختزال الحالة فى كونها حوارا سياسيا بين السلطة والمعارضة، ربما غاب عنهم وقتها أن الدعوة جاءت من رأس السلطة التنفيذية مشمولة بانفتاح على كل العناوين؛ سعيًا إلى استخلاص مُدوّنة وطنية شاملة لإدارة المرحلة بتحدّياتها كافة، وأن السياق لم يعد بسيطا، كما اعتدنا سابقا، للحديث عن لونين فقط فى المعادلة السياسية؛ إذ هناك أطياف عديدة من المعارضة، ومن الموالاة أيضا.. لا يتفق اليسار اقتصاديا مع الليبراليين، ويختلف القوميون سياسيا مع الماركسيين، وكل منهم لديه حزمة أولويات يُرتّبها وفق رؤيته وانحيازاته، وكذلك الأحزاب الداعمة للدولة لديها تفاوتات، بينما لا يحمل شخص الرئيس كتابا أيديولوجيًّا ولا يُمثّل حزبًا سياسيًّا، ويحظى باتفاق جزئى من تيارات محسوبة على المعارضة بقدر ما لديها من اختلافات، أحزاب الوفد والتجمع والمصريين الأحرار نموذجا، وإذا فتحنا القوس فإن النقابات والتجمُّعات المهنية طرف أصيل فى المعادلة، لأنها بالمعنى التنظيمى جزء من المجتمع المدنى والمجال العام كالأحزاب، وتشغلها قضايا السياسة وإن لم تكن محور عملها، كما تشغلها قضايا أخرى، الخلاصة أن الصورة لم تكن بسيطة كما طُرحت فى البداية، وإطالة التحضير يبدو أنها سدّت تلك الثغرات، وأنضجت الرؤى، وتركت متسعا لحوارات طرفيّة بين مكوِّنات الحوار الواسع؛ فبدّدت ميراث سوء الفهم الطويل، وسمحت باستكشاف كل الأطراف لبعضها وبناء رصيد من الثقة المُتبادلة، وصولاً إلى أرضيّة جامعة أكثر ثباتا ووعيا وشمولا، لتتّسع الطاولة للجميع على قدم المساواة، بتقبُّل صادق، وإيمان راسخ بحق الجميع فى أن يكونوا جزءا أصيلا من المشهد، وألا يتقدم فريق على آخر.
مرحلة التمهيد حملت مُؤشّرات عزّزت الآمال وضاعفت رهانات الجدوى، لعل أبرزها إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسى، والإفراج عن نحو 1400 من المحبوسين، وتلقّى الرئيس الجيد لاقتراح أمانة الحوار بتمديد الإشراف القضائى على الانتخابات بعد موعده المفترض فى يناير المقبل، وتوجيهه بدراسة الأمر تشريعيًّا، القوى السياسية أيضا قدمت أداء مُشجّعا بحيويّته ومُتجاوزا لأمراض الماضى السياسية، وصار الجميع مُدركين لأن المكسب الأساسى فى حالة الحوار، بما تعنيه من قدرة على اللقاء فى حيّز وسيط بين تنوّع الرؤى، وإدارة نقاش جاد عن كل الملفات دون محاذير، واستيعاب أن التطوّرات المأمولة يُنضجها العمل المستمر، لا تجميد المشهد عند محطّات قديمة، تغيّرت توازناتها واختلفت مفاعيلها ولم تعد قابلة للاستنساخ أو إعادة الإنتاج.
الحوار أجّلته الظروف واستعادته التحدّيات، وكان يُمكن أن يتأخّر أكثر، ونحن نلتقى لأننا مُختلفون، والاختلاف ثراءٌ وقوّة إذا أحسن كل الأطراف إدارته، الوصفة أهمُّ من الناتج، والخارطة الصحيحة تضمن سلامة الوصول وإن طال السفر، من الوارد أن نخرج مُتّفقين تمامًا فى جولة، أو أن تبقى بعض العناوين عالقة، المهم أننا أدركنا عناصر قوّتنا ورسمنا مُخطّطًا واضحًا للطريق، استثمار تلك الحالة يدفع نحو مزيد من الحوار؛ أوّلاً لأننا جميعًا نحتاجه، وثانيًا لأنه مسار ينعش الحالة السياسية فى تكاملها، وداخل كل تيّار على حدة، امتلاك اللغة المشتركة مبدأ لا يجب أن نحيد عنه، وتلك اللغة ستسمح لكل فريق بترتيب أوراقه وبناء صفوفه، هذه الأرضية ليست صالحة لجبر الأرقام وتقريب وجهات النظر فقط؛ إنما لابتكار صيغة عمل أكثر كفاءة للروافع السياسية، بما يسمح بتطوير الأفكار وبناء الكوادر، ما يجعل الحوار مشروعا وطنيا حقيقيا، ولحظة تاريخية لامعة لا يجب تفويتها، وتُقاس جدارةُ كل فريق فيها بقدر ما يحققه من ديناميكية داخلية، وما يعكسه فى ممارساته من سماحة وتقبل للاختلاف، الزمن لا يعود إلى الوراء، المهم أن نُحسن الحركة معه بإيقاع منضبط فى اتجاه المستقبل.