ربما كانت حالة "البحث عن صراع" بمثابة الشعار الذي تبنته القوى الدولية الحاكمة، خلال العقود الماضية، سواء في مرحلة ما قبل الحرب العالمية، عندما هيمنت القوى الاستعمارية، والتي اعتمدت إشعال المناطق المستهدفة بالصراعات، سواء على المستوى الإقليمي، أو الداخلي لتكون ذريعتها، عبر مفهوم "الحماية"، والذي ارتبط بالدول المستضعفة تارة، أو الأقليات في الداخل تارة أخرى، للدخول المباشر، عبر قواتها العسكرية، والسيطرة على مواردها وتوسيع دوائر نفوذها، بينما شهدت تلك الحالة، تغييرا جزئيا، مع الصعود الأمريكي، عبر مزيج من النهج السابق، القائم على فكرة "الاحتلال"، مع خلق أدوات جديدة، على غرار العقوبات الاقتصادية والحصار، وغيرها من الأدوات، مع العمل على تقديم ذرائع جديدة، ربما قدمت غطاءً أيديولوجياً للحجج التقليدية، منها الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وغيرها.
إلا أن حالة "البحث عن صراع"، وفقا للرؤية الأمريكية، ربما شهدت العديد من المراحل، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتي كان من المفترض أنها أنهت أكبر الصراعات الدولية على قمة النظام العالمي، بين الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي في الشرق، لتخرج واشنطن على العالم، بمصطلح جديد، وهو "صراع الحضارات"، عبر مقالة نشرها السياسي الأمريكي الأبرز صموئيل هنتنجتون، بعد عام تقريبا من انهيار الكتلة الشرقية، يعتمد فيها على تحول وجهة الصراع العالمي، من الأيديولوجية (الرأسمالية والشيوعية)، نحو صورة جديدة، تقوم على التناحر بين الحضارة الغربية ونظيرتها الإسلامية، لتتحول النظرية إلى الواقع العملي، مع أحداث 11 سبتمبر في عام 2001 وما ترتب عليها من حروب دامت لسنوات ومازالت تداعياتها قائمة، بينما تحولت الدفة بعد ذلك نحو تأجيج الحالة الصراعية في نطاق أهلي، عبر ما يسمى بـ"الحروب بالوكالة"، بالإضافة إلى اندلاع "الربيع العربي"، والذي يمثل شرارة كادت أن تتسبب في إعادة رسم خريطة دول بأكملها.
وهنا يبقى "البحث عن صراع"، بمثابة استراتيجية تبنتها واشنطن، للحفاظ على موقعها المهيمن على قمة النظام العالمي، حيث لم تقتصر في نطاق التطبيق على المناطق البعيدة جغرافيا أو دول الخصوم، وإنما امتدت إلى الحلفاء، وهو ما يبدو مؤخرا في الأزمة الأوكرانية، والتي انتقلت بالحالة الصراعية إلى قلب مناطق الغرب جغرافيا، وما حمله ذلك من تداعيات كبيرة، منها ما هو أمني واقتصادي، وسياسي، جراء مخاوف من احتمالات امتداد المعركة، وتفاقم أزمة اللاجئين، وصعود أزمات التضخم والغلاء، وتهديد أمن الطاقة والغذاء، وذلك بهدف إجبارهم على الاستمرار في الدوران في الفلك الأمريكي.
إلا أن رؤية واشنطن تبدو غير مجدية إلى الحد المتوقع في الآونة الأخيرة، خاصة مع صعود قوى جديدة، على رأسها الصين، والتي تحمل لواء استراتيجية جديدة، تقوم على مبدأ "إرساء الاستقرار"، عبر تقديم نفسها كوسيط يمكنه الوصول إلى حلول جذرية لأزمات طويلة الأمد، وهو ما بدا في الاتفاقية التي أبرمتها المملكة العربية السعودية مع إيران، برعاية بكين، ناهيك عما تحظى به من قبول روسي، للدخول على خط الأزمة الأوكرانية، وهو ما يمثل ورقة مهمة من شأنها منح الصين قدر من الثقة من قبل أوروبا في المرحلة الحالية، للقيام بدور الوسيط، خاصة مع عدم امتلاك واشنطن للمقومات التي طالما تمتعت بها لسنوات للقيام بالدور نفسه، وأهمها كونها القوى الوحيدة التي يمكنها تقديم الضمانات لأطراف الصراعات الدولية، في ظل حقبة الهيمنة الأحادية، وهو ما ساهم في غض الطرف عن مدى حيادية واشنطن تجاه أطراف النزاعات المختلفة، كما فتح أمامها مساحة للتحكم في وتيرتها، بحيث تحتفظ به عند حد معين، ولديها في الوقت نفسه القدرة على تأجيجه.
ولعل مبدأ "إرساء الاستقرار" بمثابة الاستراتيجية الصينية المضادة لحالة "البحث عن صراع"، حيث تسعى إلى تدشين عالم متعدد الأقطاب عبر تقديم نفسها للمجتمع الدولي كبديل للقيادة الأمريكية، أو على الأقل كـ"ضامن" جديد، في التعامل مع الأزمات الدولية، وهو ما يحمل العديد من الصور، ربما بدأت بعضها قبل سنوات، منها تبني مواقف الدول النامية، في مواجهة المعسكر الأخر، في قضايا المناخ، بينما يبقى الدخول المباشر والمنفرد على خط الصراعات الدولية في صورتها التقليدية، بمثابة نهجا آخر، يعزز قدرتها والثقة الدولية بها سعيا نحو دور أكبر في إطار الأزمة الدولية الأهم والأخطر في المرحلة الحالية، وهو ما يبدو قريبا للغاية، في ظل مباركة روسية، وارتباك أوروبي، يصب في صالح بكين.
وهنا يمكننا القول بأن رؤية بكين تعمد نهجا مناوئا لاستراتيجية واشنطن، القائمة على تأجيج الصراعات، عبر مبدأ "إرساء الاستقرار"، لتجد أرضية دولية من شأنها إضفاء الشرعية العالمية لدورها في المستقبل، على الأقل خلال المرحلة الحالية، وهو الأمر الذي لا يعني تقويض الصراعات بصورة مطلقة، بما يناقض طبيعة العلاقات الدولية، وإنما على الأقل من شأنه تهدئة وتيرتها في المرحلة الحالية، تمهيدا للحقبة الجديدة، التي يتمخض عنها النظام الدولي الجديد.