بعد ساعات قليلة من إعلان خبر وفاة مقرئ القرآن الكريم الشيخ محمد رفعت، يوم 9 مايو 1950، توالت الكتابات الصحفية عن صاحب الصوت المعجزة، بالرغم من أن جنازته خلت من مظاهر التكريم الرسمية، وفقا للمؤرخ الفنى الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «نجوم العصر الذهبى لدولة التلاوة»، لكن «وفد على مأتمه الآلاف من مختلف أنحاء البلاد، لم تكن لهم صلات به إلا صلة التقدير والإعجاب»، وفقا لمحمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء».
يؤكد «حنفى محمود» أنه فى 10 مايو، مثل هذا اليوم، 1950، «نشرت إعلانات النعى التى تكفل بنشرها البعض من محبيه، بالإضافة إلى رابطة قراء القرآن الكريم بمصر، وحزب العمل الاشتراكى «فرع الموسكى»، والجمعية التعاونية لبائعى الصحف، وفى 11 مايو 1950 نشرت صفحة إعلانات النعى بالأهرام نعيا أرسله ودفع تكلفته سائق من طنطا يدعى كمال الحلو، ومعه نعى آخر من المدعو أحمد منير القصبى بوزارة الشؤون، ونصه: «الشيخ محمد رفعت، عرفتك روحا طاهرة كالثلج على أجنحة الرياح، رقيقة كأنفاس النسيم فى فم الصباح، ونفسا أبية سارع إليها المحسنون فيما ظنوه ساعة العسر، فردت إليهم إحسانهم شاكرة لا عن سعة، وإنما عن عفة ورضا بما قسم الله.. أحبك المسلمون وغير المسلمين، لأن تلاوتك كانت حلوة كحلاوة الإيمان، تفجر الرحمة فى القلب والدمع فى العين، فالقرآن اليوم حجة لك لا عليك، فهنيئا لك، وسلام لك من أصحاب اليمين، وسلام عليك حتى نلتقى فى نور اليقين».
وكتب الكاتب الكبير محمد زكى عبدالقادر فى مقاله اليومى «نحو النور» 11 مايو 1950: «أكان سحرا؟ أكان فنا؟ أكان نورا علويا؟ هذا الصوت العذب تخشع له القلوب والأنفس فتروح فى سماوات من الفيض والأمن والسلام، هذه النبرات الحلوة تذهب على أمواج الأثير، فكأنها ترتد إلى مصدر وحيها فى مثل الجمال الذى نزلت إلى الأرض يرف حولها، أتراه كان صوتا أم كان روحا؟ أتراه كان يرتل القرآن ترتيلا، أم يرسله كما جاء وحيا وتنزيلا؟ تباركت ربى، أعطيت وأخذت، سلاما على الأرض، كان هذا الصوت، فكأنك بعثته فى مثل جلال ما أنزلت، فتوافق الأصل والصدى، والأداء والمعنى، فكان السحر الذى ليس بعده سحر».
ونشر الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل بالصفحة الثالثة بالأهرام، 21 مايو 1950 مرثيته للشيخ بعنوان «بلبل الفردوس.. إلى روح الشيخ محمد رفعت»، يقول فيها: «أسرى إلى الفردوس بلبله/ والذكر فى فمه يرتله/ وتسبح الآيات فى يده/ وجناحها للخلد يحمله».
فى مجلة «آخر ساعة» يوم 17 مايو 1950، كتب الصحفى محمد البيلى تحقيقا مطولا بعنوان «الشيخ محمد رفعت صوت من السماء»، يذكر فيه: «كان أجمل أطفال الحى، وأجمل ما فيه عينيه، فتحهما فجأة على الحياة، فوجد نفسه يعيش فى منزل صغير بدرب الأغوات بشارع محمد على، وكان والده لا يتركه يمشى على قدميه بل يحمله على كتفيه، وفى أحد قابلته امرأة من درب الأغوات وسألته: من هذا الطفل الجميل يا محمود بك؟ قال لها الأب وهو يبتسم: إنه ابنى، فصاحت المرأة وقالت: ابنك، مستحيل، هذا ابن ملوك، ده رمش عينيه لغاية كرسى خده، وعاد الطفل إلى المنزل فى ذلك اليوم يحس بالجحيم فى عينيه، وكان أبوه يبكى طويلا عندما يسمع ابنه الكفيف وهو يقول: متى يطلع النهار يا أبى؟ فيضمه فى شغف وحنان ويقول: سوف تتعود يا بنى على الظلام، وسترى بقلبك أكثر مما ترى بعينيك»، ومرت الأيام والطفل محمد رفعت لا يرى إلا الظلام، ولا يسمع إلا صوت والده وهو يعلمه القرآن».
يذكر «البيلى»، أن الوالد مات والابن فى السادسة من عمره، واستمر الطفل فى حفظ وتجويد القرآن فى مكتب فاضل باشا بدرب الجماميز، وفيما بعد أصبح يرتل القرآن كل يوم خميس فى المسجد المواجه للمكتب، وكانت المواصلات تتعطل فى ذلك اليوم، ويضيق المسجد بالمصلين فيفرشون الحصير خارجه ليستمعوا إلى آيات الله.
يضيف «البيلى»، أن محطات الإذاعة الأهلية خاصة «سابو» و«فؤاد» حاولت إغراءه بإذاعة تجويده لبعض آيات القرآن، فرفض قائلا: «وقار القرآن لا يتماشى مع الأغانى الخليعة التى تذيعها محطات الإذاعة»، فعرضوا عليه أن يغنى بعض المقطوعات الغنائية، فاشترط ألا يذكر اسمه، وكانت أول مقطوعة غناها هى أغنية «أراك عصى الدمع».
يذكر الدكتور خيرى عامر، فى كتاب «مشايخ فى محراب الفن»: «لم تكن لتكتمل للقارئ الجديد أدواته بدون دراسة الموسيقى والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها، فأكب على تعلم قواعد الموسيقى من خلال العزف على العود، وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب، وعبده الحامولى، ومحمد عثمان، حتى إن هناك من الباحثين من يذكر أن هناك من استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل «أراك عصى الدمع»، و«وحقك أنت المنى والطلب»، و«سلوا قلبى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة