كان الخديوى عباس حلمى الثانى مع والدته «أم المحسنين» فى قصرها المطل على خليج البوسفور باستانبول فى تركيا، يوم 27 سبتمبر 1914، وجاءه السفير البريطانى «السير مالت» ليبلغه بأن حكومته ترجوه أن يترك البوسفور إلى إيطاليا، حيث أعدت له بريطانيا فيلا بمدينة نابولى، حسبما يذكر فتحى رضوان فى كتابه «نصف قرن بين الأدب والسياسة».
يؤكد «رضوان» أن الخديو تشاءم من هذا الطلب، والسبب أن «نابولى» كانت موضع إقامة جده الخديو إسماعيل باشا عند عزله عن عرش مصر فى يونيو 1879، ويضيف: «لم يكن السفير البريطانى مجاملا فقد أضاف إلى طلبه الجاف، طلبا زاده جفافا، مؤداه أن يسافر الخديو إلى إيطاليا بأقصى سرعة ممكنة، ورد الخديو على هذا الطلب بقوله: إنه لا يريد من أية حكومة أن تبحث له عن مسكن، وأنه فى وسعه أن يدبر لنفسه محل الإقامة الذى يرضيه، وأنه لا يريد الإقامة فى نابولى ويستعجل العودة إلى مصر».
رد السفير بمفاجأته المدوية، قائلا: «لن تعود إلى مصر بعد اليوم»، بما يعنى خلعه من الحكم، ويرى رضوان أنه «يمكن اعتبار عزل الخديو عباس الثانى عن عرشه قد تم بالنطق الذى صدر عن السفير البريطانى فى ذلك اليوم، 27 من سبتمبر 1914 بمدينة الآستانة أواستنابول أوالقسطنطينية»، «كيفما شئت».
بعد أقل من 3 أشهر، صدر قرار الخلع رسميا، ويذكر أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى موسوعته «حوليات مصر السياسية- التمهيد»، أنه فى صبحية 19 ديسمبر 1914 صدر إعلان رسمى بالجريدة الرسمية، ونشر فى الجرائد السيارة، وعلق على الجدران فى القاهرة والإسكندرية وجميع أنحاء القطر فى الأماكن الظاهرة للعيان، نصه: «يعلن ناظر الخارجية لدى حكومة ملك بريطانيا العظمى، أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمى باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك، قد رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوية، وقد عرض هذا المنصب السامى لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا، أكبر الأمراء الموجودين فى سلالة محمد على فقبله».
يصف عباس الثانى هذا القرار فى مذكراته «عهدى»، قائلا: «ألغيت الخديوية بطريقة تعسفية، وبعد شطبى بجرة قلم إنجليزية من حياة مصر، دخلت وأنا حى فى التاريخ، ورفضت أن أخرج منه لمصلحة ولاستقرار بلادى، ووقع وطنى المحبوب من جديد فى عبودية أقسى، وأشد ألما على قلبى».
أصبح حسين كامل «أحد أبناء إسماعيل باشا» عم عباس الثانى «المخلوع» سلطانا بعد أن تحولت مصر إلى «السلطنة»، وتوفى حسين عام 1919 ورفض ابنه الأمير كمال الدين أن يخلفه، فذهب العرش إلى أحمد فؤاد الأول وهو أيضا أحد أبناء إسماعيل باشا.
عاش عباس الثانى منذ خلعه بين تركيا وأوروبا، ويذكر فتحى رضوان: «بقى فؤاد فى خوف من عودة ابن أخيه عباس، ويتصور فى كثير من حركات بعض الأعيان أنها مؤامرة لخلعه، لذلك كان لا بد من أن يعمل وتعمل بريطانيا كل ما فى وسعهما لحمل عباس على الإقرار بالنظام الملكى القائم، ويتنازل عن كل حق له فى ميراث العرش، وحدثت مفاوضات طويلة بين ممثلى بريطانيا وبين الملك فؤاد وابن أخيه المعزول، لينتزعوا من هذا الأخير وثيقة التنازل عن حقوقه فى الملك والعرش، وعن كل ما كان يملكه من أطيان شاسعة وعمارات وعقارات فى مصر، ولم تحقق المفاوضات شيئا، حتى جاء إسماعيل صدقى باشا ورأس الوزارة، وكان عباس تقدم فى عمره، واستقر الملك فؤاد على عرشه، فأصبح ممكنا الحصول على الوثيقة المطلوبة، وحدث ذلك فى 12 مايو، مثل هذا اليوم، 1932، أثناء رئاسة إسماعيل صدقى للحكومة.
يذكر رضوان، أن عباس قال فى بداية الوثيقة، إنه مغتبط بما رآه من خطى مصر الثابتة فى سبيل توثيق استقلالها والتوفيق بين نظامها السياسى وبين حاجتها وأمانيها، وأنه توصل إلى ذلك من خلال متابعته لما تحرزه البلاد من تقدم فى جميع المجالات، وشملت الوثيقة تأكيد عباس على التزامه للأمر الملكى بوضع نظام توريث العرش فى المملكة المصرية، وللقانون الخاص بإقرار تصفية أملاكه باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من الدستور المصرى، وختم «الخديو» الوثيقة بإقراره بأن الملك فؤاد الأول بن إسماعيل ملك مصر الشرعى، وأنه لذلك يعلن تنازله عن كل مطالبة ناشئة عن أنه كان خديو مصر أيا كان وجهها، سواء عن الماضى أم عن المستقبل، وانتهى إلى الدعاء للملك بصالح الدعوات، وأن يحيط ولى عهد المملكة الأمير فاروق بعين عنايته، وليزيد فى إسعاد مصر فى حاضرها ومستقبلها.
وكانت هذه الوثيقة بمثابة إسدال الستار عن قضية ظلت معلقة من فترة عزل «عباس حلمى الثانى» عام 1914 حتى 12 مايو 1932.