هو واحد من الممثلين المحترفين الذين تتضاءل مقدرة الجسد عنده على اكتساب أدوات الممثل المحترف، وهو النوع الذي يكون الأكثر سهولة على الاستيعاب، وتصل الأفكار التي يهدف لها كما لو أنها التماعات أو شذرات تختصر على المشاهد من الجهد في فهم المعنى المراد، لذا هو بالفعل يستحق عن جدارة لقب (عملاق التمثيل العربي) حاليا، عاشق للفن منذ صغره ومحترم لرسالته السامية طوال حياته، وفضلا عن كونه فنان قدير قدم العديد من الأعمال الفنية على مدار تاريخه الطويل، والتي تنوعت أدواره فيها ليصبح الجندى المعلوم وفرس الرهان الرابح فى معظم الأعمال التى اشترك فيها، فقد اقتحم الوسط الفنى ليحجز لنفسه مكانا مميزا بين مبدعى جيله، واستطاع أن يثبت ذاته على مدار أكثر 40 عاما من التمثيل، حتى أثرى الفن السوري والعربي بمئات من الأعمال المتنوعة بين المسرح والسينما والدراما التليفزيونية.
وخلال تلك الأعمال ترك بصمة واضحة فى مسيرة الإبداع، معتمدا في ذلك على التكيف الحقيقي الذي يقوم على المعايشة الصادقة، والعقل الباطن، ويبتعد في أدائه قدر الإمكان عن القوالب والكليشيهات الجاهزة، والتقليد الآلي الجاف الخالي من الحركة والحيوية، انطلاقا من عقيدة راسخة داخله مؤداها: (إن التمثيل الذي يجري في إطار القوالب الجامدة تمثيل تقليدي زائف وخال من الحياة، تمثيل يقوم على الطرق المسرحية المألوفة البالية، وهو لا ينقل مشاعر ولا أفكارا ولا أي صور من تلك التي يتميز بها البشر).
إنه الفنان الكبير والقدير (جمال سليمان) الذي يشبه عازف الآلة بل هوالآلة نفسها، بمعنى أن يترجم بذكائه وحساسيته وحسه الفني نصا مكتوبا كما يترجم الموسيقى الفاصل الموسيقي، ثم هو آلة لأنه لا يستطيع أن يعبر عن نفسه في فنه إلا بصوته وإيمائه وأداء بلغة جسد متقنة، وهو شأنه في ذلك شأن الممثل العظيم الذي يحتفظ بهيبته حتى في لحظات صمته، وهو هنا عندما تراقبه في الأداء لابد وأن يقفز إلى ذهنك (مارلون براندو، والسير أنطوني هوبكنز)، وربما يرجع ذلك ببساطة لأنه على دراية كاملة بالتوترات الزائفة والتشويش المعتاد الأمر الذي يجعله يحافظ على طاقتك التي تشع تأثيرا إيجابياعلى الجمهور.
تميز (جمال سليمان) باستخدامه لمفردات تحمل من الفكر مقدار ما تحمل من الحرفية بفضل حاسة الانتباه والتركيز الإيجابي الذي يتمتع به، ولعله في ذلك يتبع (قسطنطين ستانسلافسكي) في هذا السياق بقوله: الانتباه دليل المشاعر، فبفعل الانتباه منذ لحظة التركيز الإيجابي (الإرادي)، تبدأ عند الممثل عملية الإبداع أثناء التمثيل، فعيون الممثل وأذناه وكل أعضاء حواسه يجب أن تعيش على خشبة المسرح - الذي بدأه في سن مبكرة - كما تعيش في الحياة الحقيقية، ويجب أن نراها ونحسها ونلمس تأثيراتها على الحالة المسرحية، وفي هذه الحالة فقط سيستقبل المتفرج الحياة المسرحية كأنها حقيقة، وهذا ما نعرفه اصطلاحا بتحقيق عملية (الإيهام المسرحي) التي تجعل الجمهور يصدق تماما أن كل ما يراه على المسرح هو حقيقة بالفعل، وهو اصطلاحا عملية السيطرة على شعور المتفرج عن طريق المجاهدة في جعله يحس أثناء وجوده في المسرح، أو أثناء قراءته لنص درامي.
(جمال سليمان) واحد من هؤلاء الذين يمتلون تلك الطاقة المعنوية الشخصية للممثل القادرة على اجتذاب الجمهور، ربما لأنه ينطلق من الصدق في معايشة الدور، والإحساس به بدلا من الارتكان إلى التمثيل الآلي والمحاكاة السطحية في الأداء؛ لأن الصدق القائم على المهارة الفنية هو من الأمور التي يصعب أن تستمر طويلا، لكنه إذا تحقق لا يمكن أن تعافه النفس أكثر من سواه على الدوام، حتى يسري في كيان الفنان كله، وفي كيان المشاهدين كذلك، إن الدور الذي يكون الصدق مادته - كما يفعل هذا الفنان القدير - لابد أن ينمو، أما الذي تكون القوالب الجامدة مادته، فإنه يذوي ويصبح غثا سخيفا، وهو ما لا يقبله (جمال سليمان) في حياته المهنية التي يبذل فيها أقصى درجات الإتقان على مستوى الشكل والمضمون.
ولأن عمل الممثل الحقيقيي الصادق مع نفسه وجمهوره، فإن جميع الأفعال التي يقوم بها (جمال سليمان) وحتى أبسطها، وهى الأفعال المألوفة لنا غاية الألفة في حياتنا اليومية تغدو عسيرة عندما يظهر خلف الأضواء وأمام الكاميرا وجمهور مكون من ملايين المشاهدين، وهذا هو السبب الذي كان من أجله ضروريا له أن يصحح نفسه، وأن يتعلم من جديد كيف يمشي وكيف يتحرك وكيف يجلس ويرقد؟، انطلاقا من قناعته بأن اللسان الثرثار أو الأيدي والأرجل التي تتحرك بطريقة آلية لا يمكن أن تحل محل العين المدركة.. إن عين الممثل من وجهة نظره هى تلك التي تنظر إلى الشيء وتراه وتجذب انتباه المشاهدين وتستطيع بذلك أن تكون علامة تحدد له ما ينبغي أن ينظر إليه، أما العين الفارغة فعلى العكس من ذلك تشتت انتباه المشاهد وتصرفه عن المشاهدة.
في إبداعه التمثيلي يجنح نحو الاعتماد على العقل الباطن تخييلا واستدعاءا للمشاعر الشعورية واللاشعورية، وينتقل من العقل الواعي إلى العقل اللاواعي عبر الذاكرة الانفعالية، والاستسلام للإلهام الإبداعي الخلاق عن طريق الصدق والإيمان، و(جمال سليمان) يعمل هنا من خلال منهج (ستانسلافسكي) الذي يقول: (إن عقلنا الواعي يرتب ظواهر العالم الخارجي المحيط بنا، ويدخل عليها قدرا معينا من النظام، وليس ثمة خط واضح يفصل بين التجربة الشعورية والتجربة غير الشعورية، وعقلنا الواعي يعين في كثير من الأحيان الاتجاه الذي يواصل فيه عقلنا الباطن عمله، ولذلك، كان الهدف الأساسي لمهارتنا الفنية النفسية هو أن تجعلنا في حالة إبداع، يتمكن فيها عقلنا الباطن من أن يؤدي وظيفته بطريقة طبيعية.
ببساطة شديدة فإن هناك يقين راسخ لدى (جمال سليمان)، بأن هناك تعريف للفن يقول: إنه رسالة تنقل من المبدع أى (الفنان) إلى المتلقى وهو (الجمهور) خلال وسيلة فنية، سواء كانت التليفزيون أو الشعر والكتاب المسرح والتمثيل، والغرض من كل هذا محاولة تغيير الواقع إلى واقع أفضل، فنحن عندما نقدم عملا فنيا يكون ذلك محاولة لتغيير الواقع الذى نعيشه، أما إذا قدمنا خلال تلك الرسالة شيئا آخر، فيتحول وقتها الفن إلى أفيون يقتل الشعب، ومن أجل ذلك ينبغي أن يلتزم الجميع بأصول المهنة، ويكرس تفكيره بمشواره الفنى فقط وتقديم رسالة هادفة وواضحة للجمهور، وأن يحترم المشاهد مثلما احترمه عندما قرر أن يتابعه، والابتعاد عن الأعمال المبتذلة التى تقدم فى الوقت الحالى، والالتزام بتقديم فن راق هادف.
عندما وطأت قدمي (جمال سليمان) أرض مصر بعد أن قدم مسيرة طويلة في الدراما السورية تنوعت ما بين التاريخي والاجتماعي والبدوي، جاء إلى القاهرة ليقدم أعمالا بارزة تأرجحت ما بين الصعيدي والاجتماعي والرومانسي وقفز إلى مقدمة الصفوف مع أول عمل له (حدائق الشيطان) ليتوغل أكثر في أدوار البطولة الأولى في مسلسلات (أفراح إبليس، الشوارع الخلفية، قصة حب) وغيرها من الأعمال المصرية المميزة والتي حققت نجاحا كبيرا، ولعلنا نذكر أنه في عام 2012 لعب ببراعة فائقة دور (فضلون الديناري) في المسلسل المصري (سيدنا السيد)، ودور (سرحان الهلالي) في مسلسل (أفراح القبة) حتى جاءت رائعتيه (الطاووس - 2021، مين قال، والاختيار 2022) وصولا إلى أدائه في مسلسل (عملة نادرة) ليتوج رحتله في مصر بنضج فني فارق في تاريخ ممثل سورى استطاع شق صدر سماء القاهرة بدهشته الإبداعية المذهلة.
ما سبق من استعراض لأهم أعمال النجم العربي (جمال سليمان) في مصر هى مجرد إضاءة بسيطة على مشوار متخم بالأعمال التي تعد من أهم علامات الدراما العربية، لكن من الصعب إحصاء أعمال جمال سليمان في التلفزيون، فقد قدم الكثير من الأعمال المميزة كان أولها في عام 1989 بمسلسل (طرفة بن العبد)، ثم تتالت أعماله وتنوعت بين المسلسلات التاريخية والاجتماعية والدراما السورية والمصرية، ففي التسعينيات قدم حوالي الثلاثين عملا تلفزيونيا، وكان أهمها مشاركته في مسلسل (الإخوة) في عام 1994، حيث لعب دور البطولة إلى جانب (صباح الجزائري وهاني الروماني)، وأيضا أدى دوره الاستثنائي (الأستاذ مراد) في مسلسل (خان الحرير) بجزأيه في عامي 1996 و1997، والذي استعرض الحياة الاجتماعية الحلبية، ناهيك عن دوره البديع في مسلسل (سحر الشرق)، وفضلا هذا وذاك تجلى إبداعه التمثيلي في ثلاثية الأندلس (ربيع قرطبة، صقر قريش، ملوك الطوائف)، وكذلك مسلسلاته الفارقة في عذوبتها (عصي الدمع، طالع الفضة، أهل الراية، فنجان الدم، أهل الغرام).
(جمال سليمان)، يقيد نفسه منذ بداياته الأولى خاصة في المسلسلات التاريخية التي لعب بطولتها كثيرا بقواعد النطق المهمة، وهى: مخارج الحروف والسكتات أو (التمبو) وبحسب مادرسه أكاديميا في لندن - حصل على الماجستير في المسرح - تأتي أبرز تلك العناصر في أداء الجمل المسرحية الطويلة، إذ إنها تمثل الفواصل الزمانية في الحوار المسرحي أو أداء المونولوج، وأخيرا فن التركيز وهو تدريب نفسه كممثل أن يؤدي هذا المونولوج من مسرحية أو فيلم أو مسلسل تليفزيوني، من خلال دراسته مدارس الإلقاء العديدة، وهو ما ظهر جليا في روائعه (ذاكرة الجسد، أوركيديا، حرملك، ظل).
وأستطيع القول أن (جمال سليمان) لم يقدم على الشاشة المصرية 10% من طاقته الإبداعية المذهلة مما قدمه على الشاشة السورية، وهنا لابد أن يحضرني مسلسله المبهر بأداء الاحترافي بالغ الدقة والجبروت (العراب - نادي الشرق)، ألم أقل لك منذ البداية إنه يذكرك بـ (مارلون براندو)؟، ففي هذا المسلسل لابد وأن تدرك أن الحرفية التمثيلية واضحة عنده من خلال الانغماس في الشخصية، شكلا ونفسا وتفكيرا وسلوكا، بحيث يمنح الصورة الدرامية صدقا مطلوبا، فالانغماس لدى النجم السوري العربي (جمال سليمان) يكاد يلغي الخيط الواهي بين تمثيل يتطابق مؤديه مع شكل الشخصية.
وهنا الفرق ضئيل بين التماهي والتمثيل والتطابق والتقليد والمبالغة والشبه لكن ضالته تتحول أحيانا إلى هوة، ومن ثم لا تغيب براعة الممثل السوري الذي سطر حياته الفنية العربية بحروف من نور (جمال سليمان)، فتقضي على جهد مبذول لجعل الأداء صادقا في نقل الشخصية الحقيقية جسدا وروحا وتفكيرا وسلوكا إلى دراما كما ينبغي أن تكون عبر استغراقه في عوالم مبطنة وتفكيك مخبأ وكشف مستور في الشخصية تلك، وفي مهنتها وعلاقاتها وأحوالها ويومياتها وحياتها وأفعالها، هو فعلا بمثابة شعلة حقيقية مثله مثل الطبيب ورجل الدين والمفكر في أدائه العذب على مقام الدهشة الإبداعية التي لازمته طوال حياته عازفا على مفردات جسده وصوته ولغته العربية الفصيحة تارة والعامية والبدوية تارات أخرى، إنه بالفعل إنسان خلاق مبدع من خلال أدواته ولغته الخاصة لأنه ببساطة ودون تعقيد يعرف كيف يستخدمها، ومن ثم استحق لقب (عملاق الفن العربي) بجدارة أدائه الفاتن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة