مثل أى سلعة واردة من الخارج، نستورد التضخم أيضًا، تبدو المشكلة فى بعدها المحلى مُعقّدة ومُركّبة نوعًا ما، إذ مع الأوضاع العالمية واهتزاز سلاسل التوريد، شهدت كل الأسواق تقريبًا موجات تضخّم قاسية، ومع استيراد منتجاتها ينتقل الأثر إلينا، ليُضاف إلى المعادلة المحلية الناشئة عن حزمة مُثيرات منها العرض والطلب وتضخم الدخل والائتمان والتكاليف. وسط تلك الأجواء ينتهز بعض المُتحكّمين فى الأسواق الفرصة لفرض شروط مضاعفة، ظاهرها التفاعلات الحرّة وترجمة توازن الإنتاج والاستهلاك، وباطنها السعى لتحقيق أقصى عوائد بأقل قدر من النشاط الاقتصادى. فى حالة المُصنّعين قد تبدو الأضرار أخف بالنظر للقيمة المضافة التى يُحقّقها النشاط المرافق لإنتاج وتسويق وتداول السلع، وحسابات التشغيل والمورّدين والصناعات المُغذّية، لكن المشكلة أن أغلب الخروقات مارسها تجار ووسطاء لا يُضيفون أثرًا ملموسًا للناتج الحقيقى، ويحدث الأمر فى أسواق حيويّة، تتصل بسلع باهظة التكلفة، أو مرتفعة التسعير والربح، أو مُؤثّرة بخشونة على الفوائض المالية، بشكل يخصم من حجم الإنفاق الاستهلاكى الموجّه لقطاعات فاعلة، ويُعوّق حركة السوق وروافع النمو الحقيقية.
ما شهدته سوق الذهب نموذج لحالة الدفع الحثيث باتجاه خلق صورة غير واقعية، تتغذّى من تلاعب بعض الأطراف لخلق طلب مُضاعف لا يُعبّر عن طبيعة القطاع وتفاعلاته الحقيقية. قبل شهور، بينما كانت الأسعار ثابتة عالميًّا أو تتأرجح بهامش تراجع، قاد الفاعلون فى السوق موجة رفع مُتدرّجة للتسعير دون فواعل ملموسة فى ميزان العرض والطلب. تلك الحالة نقلت للمستهلكين شعورًا بأن الفائز من يشترى اليوم قبل غد، ومع أجواء التضخم المحيطة زادت دوافع التحوّط والاستثمار باقتناء الذهب، فارتفع الطلب نسبيًّا وتضخّمت الأسعار مُجدّدًا. علامات الافتعال فى المشهد بدت واضحة من حجم التذبذب السريع بنسب وأرقام كبيرة، قاربت 10% فى بعض الأحيان، مع فارق حاد فى التسعير قياسًا إلى الأسواق المحيطة، وامتناع أغلب التجار عن الشراء بأسعار البيع المُعلنة، إما لأنها تقديرات جزافية، أو لعملهم على تمرير التداولات فى اتجاه واحد والضغط على فرص زيادة المعروض، من أجل ترجمة الطلب المتنامى إلى نموّ متتالٍ فى الأسعار. فى أحد الأيام تراجع الجرام 200 جنيه دفعة واحدة دون أى تغيّر فى حالة السوق، كأنها كانت نقطة التوازن المقصودة لإعادة الشراء وتحصيل الأرباح من خسائر المستهلكين.
تدخّلت الحكومة مُؤخّرًا بإعلان تيسيرات ضريبية على دخول الذهب رفقة العائدين من الخارج، هدف الخطوة زيادة المعروض، لتقليص ضغط الطلب وضبط تشوّهات التسعير.. تسعى الدولة من وراء ذلك لاستعادة توازن السوق عند نقطة لا تبتعد كثيرًا عن المنطقة والعالم، لكن لا يمكن القفز على أن تلك الفكرة جاءت من تجار الذهب أصلاً، بعدما فشلوا فى الحصول على قرار بتخفيض الجمارك على وارداتهم المُباشرة، وتردّد أن بعضهم قالوا إنهم لن يشتروا مشغولات مُستوردة من الخارج، ربما لحصر التداول فى السبائك وتقليص أثر المصنعية والضريبة، ومع توقّع أن نسبة غير قليلة من العائدين قد يتعاملون مع الموضوع بنظرة تجارية، ربما يرى رجال الذهب أنهم وظّفوا لصالحهم آلافًا من «تجار الشنطة»، وفى أفضل الظروف سيعتبرونها فرصة لاقتسام الأرباح المُمكنة مع المسافرين. تراجع الأسعار نحو 15% وأكثر من 400 جنيه بعد ساعات من القرار، وقبل دخول جرام واحد، لا يُترجم زيادة العرض أو انحسار الطلب، بقدر ما يُشير إلى حالة كمون واستكشاف من حيتان السوق لما ستؤول إليه الأحوال، مع تمهيد أرضية مناسبة للتسوّق وجذب الكميات الواردة.. لا نطعن فى النوايا أو جدوى الخطوة، لكن نشير فقط إلى أن سوابق السوق تجعل الاستغلال والجشع احتمالاً قائمًا لا يمكن إسقاطه من الحسابات تمامًا.
تجارة السيارات واحدة من الألغاز الكبرى، ربما يتعلّل التجار فيما جرى طوال شهور بأثر إجراءات ترشيد الاستيراد، وما حدث من تحوّل إلى الاعتمادات المستندية، مع قفزات سعر الصرف وشُحّ النقد الأجنبى، لكن الحقيقة أن مصر عرفت ظاهرة الرسوم الإضافية على البيع «أوفر برايس» قبل سنوات وفى مُتّسع لا يشبه فترات الضغط الحالية، كان الأمر لا يتجاوز 20% من السعر ثم بدأ منحنى المغالاة، فاستدعت حالة الانفلات تدخُّل جهاز حماية المستهلك، وفرض الإعلان عن السعر النهائى عبر مُلصق واضح على واجهة السيارة، ودخل عشرات المستهلكين نزاعات قضائية مع وكلاء ومُوزّعين وحصلوا على أحكام لصالحهم، الواقع أن السوق شهدت فقاعة بالغة الضخامة نفخها المُهيمنون على القطاع، إلى حد وصول الأوفر برايس لـ75% وأحيانًا 100% من السعر الأساسى، وأن تُباع سيارة فى الفئة المتوسطة لا تتجاوز 20 ألف يورو بمليون جنيه أو يزيد.. كما شهدت سوق الذهب تسعيرًا عشوائيًّا عند مستويات تفوق 40 جنيهًا للدولار، فعل بعض تجار السيارات ذلك، ومُورست عملية تعطيش مقصودة رغم ازدحام مخازن البعض، وكان طبيعيًّا أن تضغط تلك الفقاعة على سوق المُستعمل، الخزّان الأساسى وعصب تداول المركبات. قادت تلك الحالة إلى أثر دائرى: مُبالغة الجديد تنفخ فى أسعار المستعمل، فيرتد الارتفاع بزيادة آلاف الجنيهات على معروض الجديد، فضلاً عن ظاهرة «المستهلك التاجر» وسط مناخ من غياب المنطق، والسبب المُباشر جشع بعض التجار وإضرارهم بالقطاع، من حيث أرادوا مُضاعفة أرباحهم دون حق.
للموضوعية، يُعزى جانب من المشكلة إلى ضغوط خارج إرادة الجميع. آثار الحرب الأوكرانية أضرّت سلاسل التوريد وأثّرت على مدخلات كثير من الصناعات، ما فجّر موجة تضخم عالمية، حاولت الدول الكبرى إدارتها بتفعيل أدوات السياسة النقدية ورفع الفائدة. تسبّب ذلك فى نزوح الأموال الساخنة وخلق ضغط على موارد النقد الأجنبى فى الأسواق الناشئة. كان الظرف يقتضى البحث عن أفضل صور التوازن بين إبقاء السوق فى حالة دوران، وترشيد تداعيات الموجة على الاقتصاد الوطنى، لكن قطاعًا من التجار اعتبروها فرصة ذهبية لتحصيل أرباح أكبر، بقدرٍ أقل من النشاط والمخاطرة. سياسة الحكومة بالتوسُّع فى التيسيرات تبدو حلاًّ عقلانيًّا، أو ضرورة ظرفية تفرضها الأوضاع وإن تحفّظ عليها البعض، لكنها تتطلّب قدرًا مُضاعفًا من الرقابة وتفعيل القانون بحسم، إذ لا تحتمل الأوضاع أن يملأ التجار جيوبهم على حساب الدولة والمواطنين، لا سيما أن المناخ الراهن تتشابك فيه القطاعات ويصبح كل منها مُوصّلاً جيّدًا لحمّى القلق ورغبات التحوّط وأطماع الربح، حتى بين المستهلكين، وهى أجواء تزيد فيها التأثيرات التضخمية وتنتقل من سلعة لأخرى، حتى مع المنتجات المحلية بالكامل، بالإزاحة أو نظرية الأوانى المستطرقة، وبفعل وفرة المعروض النقدى أو شراهة الاستهلاك وخلل أولويات المُستهلكين.
طلب تجار السيارات السماح باستيراد موديلات مُستعملة، يبدو الاقتراح وجيهًا لزيادة المعروض، لكنه مع فقاعة تسعير المستعمل سيكون فرصة ربح أضخم للتاجر، لا منفعة للسوق أو المستهلك.. تشبه الفكرة ما يحدث فى الذهب، فالسعر اليوم أقل ممّا كان عليه مثلاً فى 21 إبريل «إجازة العيد» رغم أن الأوقية الآن أعلى وتجاوزت 2000 دولار، والفارق مع السوق السعودية وصل نحو 40%، وحتى بعد التراجع الأخير ما يزال الهامش يتجاوز 300 جنيه فى الجرام باحتساب المصنعية وضريبة المبيعات هناك والرسوم المُقرّرة عنها هنا، ربما يتخوّف البعض من أثر القرار على موارد النقد الأجنبى، بخلق طلب زائد وتنشيط المضاربة على الدولار بما يزيد سعر السوق الموازية ويهبط بالجنيه، انطلاقا من النشاط التجارى المُتوقّع من دوائر قد يكون بينها تجار الذهب أنفسهم، مع التأثير المحتمل على تحويلات المصريين بالخارج، خاصة أنها من الموارد المُستهدفة منذ سنوات بأنشطة منظّمة يُمارسها أفراد وكيانات غير مُعلنة، عبر شراء الدولار من الخارج والدفع بالجنيه داخل مصر، لحرمان القنوات الرسمية من النقد الأجنبى، ويرى آخرون أن التجار قد يُضيّقون الخناق للشراء بالأسعار التى يُحدّدونها وإعادة البيع بهوامش ربح قياسية، ولأن الذهب ملاذ آمن يُنافس الدولار فإن منحه مزايا تفضيلية قد يخلق تشوّهات و«دولرة ذهبية» إن جاز التعبير.. الاحتمالات واردة والتخوّفات مشروعة، لكن الخطوة لها ما يُبرّرها لدى الحكومة وكثير من الفنّيين والمواطنين، اتصالاً بالطلب الزائد على الذهب مع توفر سيولة مالية ومَيل حائزيها للتحوّط.
الأزمة التى يعيشها الاقتصاد العالمى ليست سهلة إطلاقًا، وقد فرضت الظروف على كثير من الحكومات اتخاذ إجراءات قاسية، وتضرّرت أغلب الأسواق بفعل أزمات الإمداد وتراجع النمو وقفزات البطالة والتضخم، مصر فى قلب ذلك وأكثر عرضة للتأثر بالضغوط، لا سيّما مع قدرة الأسواق الكبرى على اجتذاب فوائض الأموال وتدبير التمويلات اللازمة لعبور الأزمة على حساب الأسواق الناشئة. تستدعى الظروف حالة تكاتف بين الدولة والمُستثمرين والمستهلكين، وإعلاء أجواء التضامن، ليس من زاوية اجتماعية تكافلية، مع أنه لا عيب فى الانحياز الأخلاقى فى الحالات الاستثنائية، لكن لأن تلك الصيغة بمثابة الطريق الوحيدة لتحصين السوق من الضرر العميق، والإبقاء عليها فى حالة كافية للاستمرار بمستوى معقول من الجدوى وقدر أخف من الاختلالات المُعوّقة، بما يضمن سرعة التعافى وكفاءته حينما تنفك الحلقة الخانقة عن رقبة العالم. تجتهد الحكومة بإجراءات جيدة وفق المتاح، ويحتاج المستهلكون إلى قدر من التثبّت والحذر من تأثيرات الأجواء الضبابية على قراراتهم اليومية، والأهم أن يستشعر التجار والمستوردون أن كل جنيه يربحونه بالمغالاة دون حق قد يُعطّلهم مُستقبلاً، أو يُكلّفهم ويُكلّف السوق ما يتجاوز تلك المنافع العشوائية العارضة.