إذا ذهبنا إلى الانتخابات غدًا؛ فكم حزبًا يمكن أن يكون جاهزًا بكفاءة وجدية؟ وكم تيارًا بوسعه النزول عن بعض أفكاره وتموضعاته للانخراط فى ائتلافات أقدر على المنافسة؟ وفى أى نسبة من الدوائر؟ وما عدد الأصوات التى يستطيع أى منهم تحصيلها، بغض النظر عن الطريقة التى تؤول إليها الحسابات فى ترجمتها لمقاعد؟ تبدو تلك الحزمة من التساؤلات أهم وأجدر بالطرح إزاء فرص التمثيل النيابى للأحزاب؛ لكنها لا تمنع بالطبع من إخضاع بقيّة الظروف والتفاصيل للنقاش، لا سيما تحصين توازنات الساحة السياسية بإثارة كل عنوان وسدّ أيّة ثغرة، ورصف الطريق نحو الصناديق بالقدر المُستطاع من القبول العام.. هكذا فعل الحوار الوطنى فى انطلاقة لجانه، وقد يُفضى الأمر إلى تغيّرات ملموسة فى قواعد التسابق على رضا الناخبين، المهم ألا تتغافل القوى السياسية عن الأسئلة المهمة التى تحتاج إلى التوقف أمامها، وطرحها على نفسها، قبل انتظار إجابات مُريحة عنها من الآخرين.
افتُتح المحور السياسى من الحوار يوم الأحد. 4 جلسات لثلاث لجان استحوذت "مباشرة الحقوق السياسية" وملف نظام انتخاب مجلس النواب على 50% منها، ما قد يُعبّر عن طبيعة الاهتمامات وخريطة الأولويات التى تتبنّاها القوى السياسية، سواء داخل مجلس الأمناء أو فى نطاق المشاركة الموسّعة. نحو 6 ساعات وعشرات المُتحدّثين من كل التيارات والأحزاب، وتفاوت فى الرؤى بين القائمتين "المطلقة والنسبية".. ليس مُهمًّا النظر فى حجم الالتفاف حول كل منها؛ إذ فى الأخير لا يبدو أن باب التوافق على إحداهما مفتوح، ما يعنى أن الاقتراحين سيُرفعان إلى رئيس الجمهورية مشفوعين بالأسباب والمُبرّرات المنطقية، وله أن يُفاضل بينها فى ضوء الضوابط الدستورية ومنطقية المشروعات المطروحة وتكاملها؛ لكن قد يكون من المفيد النظر إلى المشهد من زاوية أوسع، على أرضية من حقائق الواقع واستضاءة بتجارب الماضى.
طلب المنسق العام، ضياء رشوان، من المشاركين تنظيم مقترحاتهم فى مشروعات قوانين مُكتملة، أو فى تعديلات واضحة على القانون القائم. من البديهى القول إنه لا جدارة لنظام انتخابٍ فى ذاته، حتى لو قفز البعض عفويًّا على تلك الحقيقة البسيطة أو حاولوا تجاهلها عمدًا، فكل صيغة لها مُميّزات وفيها عيوب، والعبرة بمدى الانسجام مع الظرف السياسى وضوابط الدستور وتوازنات القوى وطبيعة العلاقة بين الشارع والتنظيمات الحزبية.. لن يعدم المُشاركون الحيلة فى تفنيد آراء مُخالفيهم، وسَوق الأدلة والبراهين على جدارة ما يطرحونه؛ ما داموا معزولين فى حاضنة مُعقّمة يدرسون فيها أمور الشارع دون اشتباك حقيقى معه. تلك المفارقة قد تعنى أن أية إجابة مثالية عن سؤال الانتخاب والتمثيل يجب أن تبدأ من أعمق نقطة فى المنظومة، الناخب والقواعد الحزبية المُتّصلة به، وأن تُبنى على تدرّج منطقى فى امتحان الظروف والرهانات؛ إن كان ثمّة اهتمام بأن يعكس التمثيل حضورًا حقيقيًّا، لا أن يكون جائزة تُقتنص بمجرد "الوجود والإشهار" فقط.
يرى داعمو القائمة المُطلقة أنها أكثر إنصافًا للأبنية الحزبية، على تفاوت مرجعيّاتها ورؤاها، وأكفأ فى تلبية الشروط الدستورية لعدالة التنافس وتحقيق التمييز الإيجابى المطلوب لبعض الفئات، فضلاً عن أثرها الفاعل فى الانتقال بالحالة الديمقراطية إلى مرحلة البرامج لا الأشخاص، وإلى التوافق لا الشقاق، ويعتبرون أن القائمة النسبية لا تملك عناصر الانسجام الكامل مع المنظومة؛ أما المُنحازون للأخيرة فيرون أنها الأقدر على توسيع رقعة التمثيل، ومُساندة الأحزاب الصغيرة، وإثراء المجالس النيابية وتقليص تأثيرات القبليّة والمال السياسى، ويتّهمون النسخة "المُطلقة" بإهدار أصوات الناخبين إلى نسبة قد تصل 50%؛ انطلاقًا من قاعدة الربح الكامل أو الخسارة الكاملة.. لدى كل فريق ما يُعزّز موقفه بطرح منطقى واستشهادات وجيهة؛ لكن هذا التكافؤ فى صلابة الأفكار وتماسكها ينبع من زاوية النظر، لا من جوهر الموقف، فأينما وقفت لن تكون عاريًا من الحجج والأسانيد، حتى أننى يُمكن أن أدافع عن النظامين بالمستوى نفسه من الكفاءة والإقناع. النزول إلى الأرض وحده ما يُمكن أن يُرجّح طرحًا أمام آخر!
اختبرت مصر كل أنظمة الانتخاب منذ عرفت الحياة النيابية أول مرة عام 1866، وتبدّلت بين التمثيل المباشر وغير المُباشر، والمُطلق والنسبى، وتعرّضت فى 1990 إلى حُكم ببطلان نظام "القائمة النسبية" لتعارضها مع الدستور وقتها.. تفاعلات كل المجالس السابقة تُؤكّد أنه لا أثر لنظام الوصول إلى البرلمان طالما ظلّت الهياكل السياسية على حالها، أو مرهونة إلى تناقضاتها ونقاط ضعفها بتكرار رتيب للأسباب والتأثيرات. توزّعت مواقف الأحزاب واختلف السياسيّون بشأن القائمتين "المُطلقة والنسبية"؛ لكنهم يُمكن أن يتفقوا أمام كل من يُعلّق الجرس فى رقابهم مُنحازًا إلى أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الأحزاب لا صيغة التمثيل. لا يُحب أهل السياسة فى العادة أن يتحمّلوا نتاج أفعالهم، ربّما لهذا لم يتوقّف بعضهم، ممّن أخفقوا فى كل التجارب ومع الباقة الكاملة لأنظمة الانتخاب، أمام تجاربهم السابقة أو حتى محاولات الآخرين على ما فيها من نجاح أو خفوت؛ لاستخلاص الدروس ومحاولة التوصُّل إلى مكوّنات الضعف الحقيقية بدلاً من البحث عن "شمّاعة" لدى المنافسين!
بعض التيّارات لا يبدو من رسائلها أنها تسعى إلى إرساء القواعد لحياة سياسية حقيقية؛ قدر انتخابها وتبنّيها للمسارات الكفيلة بتمكين الكيانات القائمة، وهناك فارق عريض بين الأمرين. برهان ذلك أن موضوع الانتخاب والتمثيل النيابى وُضِع من أغلب المُعارضة والأحزاب الصغيرة فى مرتبة مُتقدّمة حتى على ملفات الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية، وتزامنت معه أحاديث عن مأزق التمويل، مشفوعة باقتراحات أوّلها مُساندة الدولة، وأغربها السماح بتأسيس وامتلاك أنشطة اقتصادية ومشروعات ربحيّة. يُمكن أن نتجاهل ما يخص تجربة "دعم الأحزاب" ماليًّا قبل 2011، وما أفرزته من فسادٍ وصراعات داخلية، وكذلك مسألة "البزنس" التى تسبّبت سابقًا فى امتلاك أحد الأحزاب أكثر من عشرين صحيفة وتأجير بعضها من الباب لتيارات تتصادم معه فكريًّا ووطنيًّا إلى العُمق؛ لكن التجاهل لن يُغطّى على ما وراء تلك الأفكار من دلالات قد تُقرأ على وجه سلبى، أفضلها إحسانًا للظن أن بعض الحزبيّين يبحثون عن مزايا دون أعباء، ويُحاولون تعليق تجاربهم على رأس المشهد، بدل بنائها من قاعدته بالانتشار والعضوية والمساهمات الفردية بكل ما تُعبّر عنه من شعبية وإخلاص حقيقيين.
تراجُع التجرّد خطوةً وراء حسابات الأشخاص والتيارات، وضع حصّة من الرؤى فى حيِّز الانتقاء والتوجيه. أُوّل الأمور ما يخص الحديث عن إهدار الأصوات، بينما نحن إزاء نمطين مُختلفين من التمثيل: الأغلبية المُطلقة، والأوزان النسبية. يحدث فى الفردى والرئاسة والاستفتاءات وغيرها أن يفوز صاحب الأغلبية، دون أن نتحدّث عن إهدار بقيّة الأصوات، ولا معنى لإثارة ذلك خارج حقيقة اختلاف النوع إلا الاجتزاء والتشويه المقصودين. الملاحظة الأهم أننا لسنا إزاء قائمتين، بل ثلاث: المطلقة، والنسبية المُغلقة، والنسبية المفتوحة.. معارضو القائمة المُطلقة يتجاهلون الشكل الأخير تمامًا، بينما لو كُنّا بصدد طرح حقيقى عن حرية الناخب فإنها أجدر من شقيقتها، على الأقل فى تحريرها الكامل لأثر الوجوه والأسماء، وإتاحتها فرصة لإعادة ترتيب اختيارات الأحزاب نفسها. التعلُّل بصعوبة الشكل قد لا يكون منطقيًّا بالنظر إلى أن "النسبية المُغلقة" ليست سهلةً، ولها اشتراطات وحسابات مُعقّدة، بينما معيار السهولة يصب فى صالح "القائمة المُطلقة". يمكن السؤال عن سرّ تجنّب "النسبيّين" أى حديث عن النسخة "المفتوحة"، إذ لا مُبرّر لاستبعادها من الطرح، سواء جرى الاستقرار عليها أو لا، إلا أن المقصود تحصيل مقاعد أيًّا كانت قوّة المُنافسين، ولصالح وجوه بعينها، يُمكن أن يخضع ترتيبها لحسابات وتوازنات أبعد من مُقتضيات التمثيل القويم.
يُقرّ الدستور تمييزًا إيجابيًّا لسبع فئات، منها النساء والشباب والأقباط وذوو الهمم، وتحتاج البيئة السياسية إلى تخليصها من رواسب الماضى وتأثيرات العصبية والرشاوى الانتخابية، والتحوّل بها إلى مرحلة الأفكار والبرامج، مع إتاحة الفرصة للتوافق وبناء ائتلافات تستوعب المستقلين إلى جانب مروحة من الأحزاب والتيارات. القائمة المُطلقة تبدو أكثر قدرة على الاستجابة لذلك، وفى المقابل فإن "النسبية" قد تتسبّب فى اختلال التمثيل جغرافيًّا ونوعيًّا، بالنظر إلى أن طريقة بنائها واحدة فى الغالب، ما يعنى أن رؤوسها الفائزة من كل التيارات ستكون من المراكز الحضرية أو من فئات بعينها، فضلاً عن صعوبة الوفاء بـ"الكوتة"، كما أن رفع عتبة الأصوات قد يحرم عشرات الأحزاب من دخول البرلمان للأبد، والمبالغة فى تخفيضها قد يجعله غابة لافتات وعناوين سياسية يغيب عنها التجانس، وهكذا يبدو التمسّك بها محاولة هروب إلى الأمام بدلاً من الرجوع إلى الالتزامات الواجبة تجاه الظهير الشعبى. يُمكن أن نتحدّث عن إعادة تخطيط الدوائر، أو تقليص حجم القوائم المُطلقة مُقابل زيادة عددها، بما يُوسّع الفرص ويُعزّز قدرات التنافس وبناء التحالفات، لكن لا تبدو "القائمة النسبية" بديلاً مُقنعًا فى الوقت الراهن؛ وهذا لا ينفى أنها ستُرفع إلى الرئيس بين الاقتراحات، ويتوقّف القرار بشأنها على تكامل مشروعات القوانين المُنتظر تقديمها من داعميها داخل الحوار.. أيًّا كانت الصيغة القادرة على الصمود وفق مُقتضيات اللحظة، تظل المُعضلة داخل التيارات السياسية أكبر ممّا هى فى نظام الانتخاب. مطالب فتح المجال العام وتعزيز التنافسية ومُساندة الأحزاب مهمّة ومنطقية؛ لكن الأسئلة الكُبرى عن الحياة الحزبية تظل إجاباتها فى أماكن أخرى غير لجان الحوار الوطنى وأروقة البرلمان، وبالتحديد لا إجابة جامعة عنها إلا فى الشارع وبين الناس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة