مرّ قرن تقريبًا، وما زال «الكساد الكبير» حاضرًا فى وعى الأمريكيين وذاكرتهم. امتدت الأزمة طويلاً وكانت مؤشّراتها بالغة القسوة، تزايدت الديون وانكمش الاقتصاد؛ فانخفضت التجارة الدولية إلى النصف وتجاوزت البطالة 23 %. الظرف الحالى يبدو بعيدًا عن ذلك، لكن الضغوط الآن، رغم صغرها حال المُقارنة مع ثلاثينيات القرن الماضى، لا تزال قادرةً على إزعاج الاقتصاديين والسياسيين على حد السواء.. يتجلّى ذلك بأوضح الصور فى الصراع الدائر بين الجمهوريين والديمقراطيين على رفع سقف الديون.
الاشتباك القائم فى أروقة السياسة والمال الأمريكية ليس جديدًا، وعاشته واشنطن مرات عديدة آخرها ولاية أوباما 2011؛ لكن تأثيراتها هذه المرة تبدو أعمق وأشد إرباكًا؛ إذ تفرض الأزمة الاقتصادية ضغوطًا مُرهقة على كل الأسواق، بغض النظر عن أحجامها. تصدّى بنك الاحتياط الفيدرالى للتضخم بأدوات السياسة النقدية، ووصل بالفائدة لأكثر من 5 %؛ صحيح أنه كبح انفلات الموجة وأبقى السوق عند اتزان نسبى، وأتاح فرصًا أكثر إغراءً لتمويل العجز عبر رفع جاذبية السندات، لكنه رتّب ضغوطًا إضافية على الجهاز المصرفى، تسبّبت فى إفلاس بنوك وعجز غيرها عن إدارة أنشطتها باستقرار واستدامة، فضلاً عن ضغوط أشد على الخزانة العامة، انطلاقًا من مضاعفة كلفة الاقتراض ثلاث مرات، بما يعنيه ذلك من عجز أكبر، وزحف أسرع إلى سقف الديون المقبل، حال استمر الكونجرس فى رفض التخلّى الكامل عن وضع قيد صارم على الاقتراض.
ليس واردًا أن تنسحق رأس الموازنة تحت سقف الديون الثقيل؛ إذ لا خلاف بين الإدارة الديمقراطية وخصومها على ضرورة تحريك قيود الاقتراض من مستوياتها الحالية، لكن يرهن الجمهوريون موافقتهم بتقليص الإنفاق الحكومى، قد يبدو الأمر صدامًا عميقًا بين توجهين لا وفاق بينهما ولا مُساومة، انطلاقًا من خلافات الأيديولوجيا؛ لكن يُتوقّع فى نهاية المطاف ومع استشعار الجميع للخطر المحدق أن يحدث اللقاء فى منطقة وسيطة، خاصة أن المسارات البديلة قد تخلق أزمات أعمق، سواء بتفعيل تعديل الدستور فى المادة 14، بما يسمح للرئيس بإقرار إجراءات تنفيذية لسداد الالتزامات بغض النظر عن سقف الدين، وما يتبع ذلك من جولات صاخبة أمام المحكمة العليا، أو اللجوء إلى الحل النظرى الذى تردّد كثيرًا ولم يُختبر، للتحايل على قيود طباعة النقد عبر سك عملة معدنية بقيمة تريليون دولار؛ ثم تسوية الأمر لاحقًا بعد التوصُّل لاتفاق دائم أو تغيّر موازين الكونجرس.
سقف الدين الحالى عند 31.4 تريليون دولار بنحو 130% من الناتج الإجمالى. تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى فى حجم المديونية، والثانية بعد اليابان فى نسبتها إلى الناتج. رغم ذلك ما تزال جاذبةً لمُستثمرى السندات؛ انطلاقًا من قوة عملتها وجدارتها الائتمانية؛ لكن من بين الاحتمالات السلبية لامتداد النزاع على الخط الأحمر أن يهتز التصنيف الائتمانى، أو تفقد السوق قدرًا من جاذبيتها وتتضرّر صلابة الدولار، خاصة أنه يواجه تمرّدًا واسعًا من أقطاب لم تعد راضيةً عن هيمنته وتربّحه المجانى من نواتج العالم وتجارته، وشهدت الفترة الأخيرة اتفاقات ثنائية بين أسواق مهمّة لتفعيل التداول بالعملات المحلية، فضلاً عن اتجاه تجمّعات صاعدة لذلك أو دراسة إصدار عملات مُشتركة مثلما يُطرح داخل «بريكس». لن تُثمر تلك التحرّكات أثرًا ملموسًا فى المدى القريب، وبالتأكيد لن تطيح الدولار عن عرش التجارة العالمية، لكنها مُقدّمة أشبه بأثر الفراشة وتداعى أحجار الدومينو، ولعل الولايات المتحدة تستشعر ذلك فتمارس ضغوطًا على عدد من حلفائها. رغم أن تلك المحاولات قد تُبطئ اندفاعة التخلُّص من وصاية الدولار، يبدو أن الأزمة الأكبر التى تهدّده ستكون من داخل البيت، وعلى إيقاع صراعات الجمهوريين والديمقراطيين، وتراجع قدرة واشنطن عن مجاراة خصومها الصاعدين اقتصاديًّا بقوة وسرعة وكفاءة، كما فى حالة الصين.
يسعى الجمهوريون، من خلال ربط الموافقة على رفع السقف بتقليص الإنفاق، إلى استخلاص مكاسب مباشرة من الإدارة الديمقراطية، لا تقتصر دلالتها على إنفاذ رؤيتهم كأنهم يسكنون البيت الأبيض؛ إنما تمتد إلى الإحراج السياسى بدفع الديمقراطيين للتراجع عن ثوابت مُستقرّة فى سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية. فى المقابل يحاول «بايدن» الإفلات من الاختبار الصعب؛ لا سيما مع الاستعداد للانتخابات خريف 2024، وما يمثّله الارتداد عن دعم الصحة والضمان الاجتماعى ومزايا المتقاعدين وغيرها من نزحٍ مُحتمل لخزّان التصويت الأكثر ولاءً. يبدو المشهد أقرب إلى لعبة «عضّ أصابع» وكل طرف يعى أن خصمه لن يتحمّل مسؤولية الأزمة أمام الأمريكيين؛ لكنه يحاول الوصول إلى الحل المُتّفق عليه ضمنيًّا بأكبر مكاسب، وفى الأخير سيكون الوفاق المستحيل ضرورة لا مفرّ منها تحت أى ظرف.
منذ استحداث نظام «سقف الدين» قبل 106 سنوات، واتخاذ شكله الحالى أواخر الثلاثينيات، لم يكن أداةً للاستقطاب والتجاذبات السياسية كما هو الآن. خلال آخر 6 عقود رُفع نحو 78 مرّة كانت للإدارات الجمهورية 49 منها بنحو 63 %؛ لهذا يبدو موقفهم المُتشدّد الآن غريبًا وكيديًّا. المشكلة أن منحنى الدين يزحف فى متوالية مُثيرة للقلق، فمن 5 تريليونات دولار فى 1995، إلى 6 فى 2000، و8 فى 2005، وأكثر من 12 بقليل 2010، و18 فى 2015، و24 فى 2020، أى أنه قفز أكثر من 7 تريليونات تقارب ربع قيمته الإجمالية فى آخر ثلاث سنوات، ما يعنى أنه قد يلامس مستوى 40 تريليونًا خلال العامين المقبلين، بالنظر إلى ما تُرتّبه الأزمة من أعباء إضافية، وإلى نموّ قدرات المنافسين الدوليين لدرجة تتطلّب تعزيز الإنفاق على أدوات الهيمنة، لا سيّما الدفاع والمساعدات ومزايا الحلفاء.
خاضت الولايات المتحدة حربًا تجارية شعواء مع الصين منذ 2018، وتخوض الآن صراعًا غير مباشر مع روسيا على الأراضى الأوكرانية. لا تنفصل جروح الاقتصاد عن السياق السياسى الذى عكّرته واشنطن أو تورّطت فيه على امتداد العالم. الآن تُطوّر مشروعًا أسمته «I2U2» تسعى لتعويمه بشراكة مع إسرائيل ومحاولات جذب للهند والإمارات والسعودية، وبينما تروّج له كقناة وصلٍ حيوية تجمعها بالشرق الأوسط وجنوب آسيا، ربما يكون هدفه الأساسى أن تُطوّق مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وهى مسار تنموى تنخرط فيه كثير من العرب ودول آسيا. تحاول الولايات المُتحدة دائمًا تصفير ملفاتها الداخلية وتصدير الأزمات للخارج، المشكلة أن السياق الراهن لا يسمح لها بذلك على الوجه الذى تريده، ولن يُوقّع لها أحد «شيكات على بياض» كما اعتادت.
خلال أزمة 2011 تراجع تصنيف أمريكا الائتمانى لدى «ستاندرد آند بورز»، وهو أمر مُرشّح للتكرار بدءًا من يونيو، بحسب وزيرة الخزانة جانيت يلين. تتوقع وكالة «موديز» أن يتسبّب العجز لأسبوع فى زيادة التضخم نصف فى المائة مع بطالة بـ5 %، وحال الامتداد عدّة أسابيع ستفقد السوق 7 ملايين وظيفة مع انكماش نسبته 4 % وآثار ممتدّة لعشر سنوات. المواطن لا يتحمّل هذا المستوى من الضغط، والتداعيات ستطال الجهاز المصرفى وأدوات الدين وكُلفة الاقتراض وجاذبية الدولار كعملة احتياط وتجارة دولية، تلك الحزمة تعنى اهتزازًا للسوق ومُؤشّراتها، وتراجعًا فى الثقة إلى درجة قد تسحق الاستثمار والنمو وإنفاق الأفراد، والأخطر نفخ مُعادلة الدَّين العام الصاعدة بوتيرة أسرع وأكثر حدّة، تُضاف لكل ذلك تأثيرات تطال التجارة الدولية والعقود المقوّمة بالدولار، وتضر الأسواق الناشئة وترفع منسوب التحفظ على واشنطن وأدوارها.. يعلم الجمهوريون هذا قبل الديمقراطيين؛ لكنهم يضعون الفرصة السياسية قبل النظر فى المخاطر ومن يدفع الفاتورة أمام الناخبين. تلك الحالة ستنعكس بالضرورة على الانتخابات المقبلة، حتى لو توصّلوا لاتفاق قريب برفع السقف، أو تعليقه مؤقتًا حتى الموازنة الجديدة.
من التزيّد اعتبار أن الأزمة مُؤشّر لتراجع واشنطن عن مكانتها؛ لكن رغم ذلك لا يمكن النزول بها إلى مستوى «زوبعة فى فنجان». مرّ على تصدّع السقف 4 أشهر ولا تزال الأجواء ضبابية، وتخلّت الإدارة عن أمور تعدّها من الأساسيات، فعلّقت بعض مدفوعات الادخار وقلّصت استثمارات الصناديق؛ من أجل البقاء دون الخط حتى اللحظة. سيترك الأمر أثرًا بالخارج حتى بعد فكّ التشابك، إذ ربما يرى البعض أن الخزانة الفولاذية لم تصمد أمام سخونة الواقع الجديد، ولم تعد مُحصّنة وآمنة كوجهة مثالية لثرواتهم، وقد يرفض آخرون استمرار توظيف الدولار «عملةً عقابية» وأداةً سياسية، أو يلتحق غيرهم بركب من قوافل عديدة تحاول الانفكاك من قبضة الغول الأمريكى، وفضّ الشراكة القائمة على الاستضعاف والاستثمار فى الوصاية، إمّا بالتقييد والوعيد، أو بالإغراء والاختراق الناعم؛ لتحصل فى النهاية على ما تريد، كما استمر الحال طويلاً فى ضغوط تسعير الطاقة والتجارة وفرض الدولار والصادرات الدفاعية وغيرها.
يُعبّر المشهد عن أزمات داخلية وقد يُترجم تراجعًا نسبيًّا فى دور «فتوّة العالم» نافذ الإرادة. بات هناك لاعبون يملكون حلولاً ولديهم طموحات؛ ما يفسخ عقود الإذعان القائمة ويُوفّر خيارًا مُستحدثًا ربما يكون أكثر جدوى للحلفاء القدامى. يفرض ذلك تحدّيًا طارئًا على واشنطن التى اعتادت أن يُموّل الآخرون نزواتها، وتحتاج إلى استيعاب تحوّلات الخارج لتُحسن إدارة صراعات الداخل، مع الإيمان بأن الزمن تجاوز الدبلوماسية القسرية والعصا الغليظة. خلاصة المشهد أن الأزمة قاسية حتى على أضخم اقتصادات العالم، وأن الحلول فى ابتكار مسارات جديدة لا ترميم القديم، كما أنه لا نزاهة إطلاقًا فى تصدير الأزمات للآخرين أو تمويل التعافى من جيوبهم.. استقامة منظومة القيم لا تقل أهمية عن مناورة «سقف الديون»، ومن الضرورى أن يتحمّل المُخطئون مسؤوليتهم تجاه الأسواق الناشئة. يبدو أن سياقًا عالميًّا جديدًا طور التشكُّل، من المبكّر التنبؤ بما سيُفضى إليه؛ لكن يجب أن يكون عادلاً ومُحايدًا، والأهم أن يعى الجميع أنه لا مياه دافئة ولا حصانة كاملة، يمكن أن تنشأ الأزمات فجأة أو بمغامرات طائشة، لكننا جميعًا ندفع التكلفة، ونرفع «سقف ديون» الكبار على أكتافنا المُتعبة!