ربما شهدت نظرية النفوذ الدولي، العديد من مراحل التغيير، خلال العقود الماضية، بدءا من ارتباطها بالسيطرة على أراضى الدول الأخرى، خلال الحقبة الاستعمارية، لتتغير الوجهة بعد ذلك نحو صراع الأيديولوجيات، بين الشيوعية السوفيتية والرأسمالية الأمريكية، فى مرحلة الحرب الباردة، بينما انطلقت نحو الهيمنة عبر نشر مبادئ القوى المهيمنة، فى إطار منظومة من القيم العالمية، التى سعت الولايات المتحدة نحو إرسائها، منذ بزوغ نجمها فى الأربعينات من القرن الماضي، غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأى والتعبير، لتتحول فى ذلك الحين إلى ما يمكننا اعتباره "دستورا" للمعسكر الغربى الذى تقوده، بينما سعت إلى تعميمه، بنفس النمط إلى كل أرجاء المعمورة، بعد انفرادها بزمام الأمور فى العالم، مع انهيار الاتحاد السوفيتي، فى بداية التسعينات.
ولعل منظومة القيم، التى أرستها واشنطن، على النحو سالف الذكر، أصبحت بمثابة الأداة لتعزيز شرعيتها الدولية، بينما كانت فى الوقت نفسه وسيلة القوى الإقليمية فى كافة مناطق العالم للحفاظ على مكانتها الدولية، ناهيك عن حماية نفسها من بطش القوى المهيمنة، التى كانت تلاحق المارقين بسيل من العقوبات الاقتصادية، والتى كانت تصل أحيانا إلى الغزو العسكري، على غرار ما شهدته العراق قبل عقدين من الزمان، تزامنا مع وعود براقة للشعوب بمزيد من الديمقراطية، وهو الأمر الذى لم يكن يتحقق فى نهاية المطاف، حيث تعانى الدول جراء الخراب والفوضى التى تحل بها، بينما تتجه الأنظمة نحو مزيد من الديكتاتورية والقمع، لتتحول المعاناة من حالة الاحتلال الأجنبى للأرض، إلى حرب أهلية تأكل ما تبقى بها من أخضر ويابس.
إلا أن ثمة تغييرات عميقة تشهدها البنية الدولية في المرحلة الراهنة، جراء ما يشهده العالم من "مخاض" يتحول فيه نحو حقبة جديدة من التعددية، تسمح لقوى دولية جديدة، ليس فقط بمزاحمة الولايات المتحدة، وإنما إرساء رؤية جديدة لمنظومة القيم السائدة في المجتمع الدولي، في ظل معطيات عدة، تبدو بجلاء على مسارين، أولهما على النطاق الشعبي، في ظل احتجاجات غير تقليدية، شهدتها العديد من العواصم الغربية في السنوات الأخيرة، تحمل مطالبات صريحة بالخروج على ما آلت إليه صناديق الانتخاب، وهو ما يمثل طعنة قوية للديمقراطية بالمفهوم الأمريكي، بينما كان المسار الأخر قائما على الأنظمة الحاكمة، والتي باتت تحمل توجهات تبدو بعيدة إلى حد كبير عن المعسكر الغربي، عبر العمل، ولو على استحياء، نحو التقارب مع بعض القوى التي طالما نعتتها بالديكتاتورية، على غرار الصين، ومحاولة إيجاد مقاربات مع روسيا فيما يتعلق بالشأن الأوكراني.
وفى الواقع فإن مثل هذه التغييرات، وإن ارتبطت في جزء كبير منها بالحاجة الملحة لمواكبة المتغيرات الكبيرة في المشهد العالمي، في ظل اقتراب النهاية لعصر الهيمنة الأحادية المطلقة، تبقى في جوهرها نتيجة مباشرة لعدم قدرة الولايات المتحدة على مواصلة تقديم المزايا المجانية للحلفاء، بل والانقلاب عليها، وهو ما بدا في العديد من المواقف الأخيرة، منها إعادة فرض التعريفات الجمركية على الواردات، ناهيك عن ممارسة أقصى درجات الضغط عليهم، عبر التلويح بورقة الناتو، وهو ما يمثل تهديدا أمنيا مباشرا لهم، مما دفع إلى مقترحات، ربما أبرزها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن الخروج عن التحالف الأطلسي عبر تأسيس "جيش أوروبي موحد".
ولكن يبقى انهيار منظومة القيم التي طالما دافعت عنها الولايات المتحدة، لتكون السبيل في تأصيل نفوذها على الساحة الدولية، سببا فيما يمكننا تسميته بـ"الفراغ القيمي"، وبالتالي الحاجة إلى إرساء منظومة جديدة للقيم، تجد جذورها في الإرث الدولي العريق، وهو ما يبدو واضحا في إحياء مفاهيم دولية أخرى، على غرار "عدم التدخل" في شؤون الدول الأخرى، وهو ما يبدو في الخطاب الذي باتت تتبناه العديد من القوى الدولية والإقليمية، في الآونة الأخيرة مع تصاعد الأزمات، في الوقت الذي تتصاعد فيه قيم الإغاثة والإنسانية، والتي باتت ترتبط إلى حد بعيد بالعمل الدبلوماسي الدولي.
فلو نظرنا على سبيل المثال إلى الأزمة السودانية الحالية، نجد أن ثمة إعلانا صريحا من قبل الدولة المصرية، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، بينما كان لزاما تقديم الدعم لألاف البشر سواء من المواطنين أو السودانيين أو حتى الأجانب، عبر إيجاد ملاذ آمن لهم، في إطار إنساني بحت، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون أن يكون هناك خط للحوار بين طرفي الأزمة.
وعلى النطاق الدولي الأعم، نجد أن مبدأ "عدم التدخل"، يبقى شعارا ترفعه القوى الطامحة، للمشاركة في القيادة الدولية، على غرار الصين، وذلك في إطار رغبتها في استرضاء قطاع عريض من دول العالم، يضفى عليها الشرعية في ظل المنافسة الشرسة مع الولايات المتحدة، وتشكيل حقبة جديدة من النظام الدولي، يقوم على التعددية القطبية، بعيدا عن الهيمنة، فى الوقت الذي سعت فيه إلى تقديم الدعم الإنساني والإغاثي للعديد من الدول حول العالم، ومن بينهم خصومها الغربيين، إبان أزمة كورونا.
وهنا يمكننا القول بأنه على الرغم من أن مبدأ "عدم التدخل" في شؤون الدول الأخرى، ليس جديدا على القاموس الدولي، فهو أحد أساسيات القانون الدولي، والمواثيق الدولية، إلا أنه ربما بحكم الظروف الدولية بات مجمدا لعقود طويلة، بفعل الهيمنة الأحادية، بينما أصبحت التعددية السبيل لإعادة إحيائه مجددا، في ظل وجود مساحة كبيرة من المنافسة بين العديد من القوى الدولية، تسمح بإعادة تشكيل النظام العالمي في المرحلة المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة