ربما يبقى توقيت زيارة سلطان عمان هيثم بن طارق إلى القاهرة دليلًا دامغًا على قوة العلاقة بين البلدين، والتي تحمل تاريخا طويلًا يعكس العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية، في ضوء حالة من الارتباط التاريخي بين مصر ومنطقة الخليج، تشهد عليه الأحداث المتتالية، سواء في الأمس القريب أو البعيد، بينما تمثل في الوقت نفسه انعكاسًا مهمًا للعديد من المتغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية، في ظل أزمات متواترة تضرب العالم بأسره، جراء صراعات متعددة ومتنوعة، تتراوح بين البعد الأهلي، في منطقة الشرق الأوسط، مرورا بالأبعاد الإقليمية والدولية، وحتى الصراع مع الطبيعة بمفهومها الواسع النطاق، جراء ظاهرة التغير المناخي، وما تحمله من تبعات كارثية على المنطقة والعالم.
ولعل أبرز ما يميز السياسات العمانيه طيلة العقود الماضية، هو تبني نهجًا محايدًا، يعتمد مسارات متوازية، أبرزها عدم الانغماس في صراعات دولية أو إقليمية في الوقت الذي تصب جل تركيزها على تحقيق التنمية في الداخل، وهو ما لفت انتباه العديد من المتابعين للعلاقات الدولية، إلى حد الاختلاف على ما يمكننا تسميته بـ"الحالة العمانيه"، بين منتقدٍ لما اعتبره البعض "انعزال" عن الواقع الدولي والإقليمي المشتعل، ومشيد بحالة السلم الاجتماعي والقبول الدولي الكبير الذي تحظى به الدولة الخليجية من كافة أطراف المعادلة الدولية، جراء قدرتها الكبيرة في إدارة مواقفها بعيدا عن الانغماس في أي اشتباك مع مختلف أطراف الأزمات الدولية، وهو ما يبدو في احتفاظها بعلاقتها مع إيران، في ظل أزمتها طويلة الأمد مع منطقة الخليج، أوبعد ذلك مع سوريا في أعقاب الفوضى التي حلت به خلال العقد الماضي.
عبقرية السياسات العمانية، تتجسد في قدرتها على تحقيق حالة من الحياد الشامل، رغم وقوعها في منطقة مشتعلة بالأزمات والصراعات الإقليمية، فكانت بمثابة الدولة الوحيدة المؤهلة للقيام بالعديد من الوساطات، التي من شأنها الحفاظ على أقصى درجة ممكنة من الاستقرار، في ظل حقبة كان من الصعب فيها أن تنأى دولة بنفسها بعيدًا عن المعطيات "الصراعية"، التي كانت عنوانًا للعلاقة بين القوى الإقليمية المتنافسة، وهو ما يصب في صالح الداخل، في ظل التأثير الكبير للأوضاع الدولية والاقليمية على الداخل، بينما تمثل العملية التنموية أولوية قصوى، في إطار العمل على تحقيق الاستقرار والرفاهية الاقتصادية للشعب العماني.
النهج العماني، والذي تبنته السلطنة منذ عقود، يبدو متواكبًا مع متطلبات اللحظة الدولية الراهنة، ربما أكثر من أي وقت مضى، في ظل العديد من المعطيات التي برزت مؤخرا، وأهمها التوجه نحو خلق بيئة إقليمية مستقرة، قادرة على توحيد مواقفها، تجاه مختلف القضايا العالمية، سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى بيئية، ويمكنها تحقيق التنمية المستدامة، على المستوى الجماعي، باعتبارها الوسيلة التي يمكن بها حماية الإقليم من كافة التهديدات المحدقة به، وهو النهج نفسه الذي وضعته مصر على عاتقها منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، في عام 2014، والذي يقوم في الأساس على تصدير مفاهيم جديدة على المستوى الإقليمي، على غرار الاستقرار بديلا عن الصراع، والتنمية بدلا من الدمار، خاصة بعد حقبة "الربيع العربي"، والتي شهدت انتقالا فيروسيًا للأزمات من دولة إلى أخرى، مما وضع المنطقة بأسرها تحت نير التفكك والانقسام والحروب الأهلية.
وهنا تبدو الأهمية الكبيرة لزيارة سلطان عمان إلى القاهرة، والتي تتجسد في تفعيل الرؤية المصرية - العمانية، والقائمة في الأساس على تصدير الاستقرار لدول المنطقة، والتحول من تجاوز الخلافات البينية نحو البحث عن الحقوق المشتركة، في ظل عالم متغير، والتي ترتبط في الأساس بحق الشعوب في التنمية وحياة أفضل، بعيدا عن الصراعات، وهو ما يتطابق مع الرؤى العربية الجمعية في الآونة الأخيرة، والتي تجلت بوضوح في قمة جدة الأخيرة، ناهيك عن التطورات الأخيرة والتي ارتبطت بحزمة من المصالحات العربية الإقليمية، وكذلك المواقف المحايدة تجاه الصراعات العالمية الأوسع نطاقًا، كما هو الحال في الوضع الراهن في أوكرانيا.
الزيارة الهامة تأتي كذلك في ظل الحاجة الملحة إلى دور أكبر لكافة الدول في المنطقة، في إطار من التعددية، التي تتزامن مع مخاض دولي، سوف يؤدي، لا محالة، إلى انتهاء عصر الهيمنة الأحادية، مع صعود العديد من القوى الدولية القادرة على صياغة القرار الدولي، والذي طالما استأثرت به قوى واحدة على مدار عقود طويلة من الزمن، وهو ما يمثل انعكاسا للتحول التدريجي من الطبيعة التنافسية للعلاقات بين القوى الإقليمية نحو تحقيق أكبر قدر من التكامل على مختلف الأصعدة.
وهنا يمكننا القول بأن أهمية الزيارة التي يقوم بها السلطان هيثم بن طارق، لا تقتصر فقط على تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون، وهي الأبعاد التي تمثل أهمية كبيرة، ولكن أيضا تحمل في طياتها أبعادًا إقليمية ودولية أكثر اتساعا في ظل متغيرات كبيرة على المستويين الإقليمي والدولي، في ضوء التحول من حقبة توسيع نطاق الصراعات والأزمات نحو "تصدير الاستقرار" وتعميمه، حتى يمكن مجابهة الأزمات المحدقة بالعالم في اللحظة الراهنة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة