ربما تبقى مشاركة كافة الاطياف السياسية والمجتمعية في الحوار الوطني، يمثل تطبيقا عمليًا للعديد من المبادىء التي أرستها "الجمهورية الجديدة"، والتي تعكس إدراكًا لطبيعة المرحلة الحالية، في ظل العديد من الأزمات العالمية، التي تحمل تداعيات كبيرة على الداخل، وهو ما يتطلب تحقيق أكبر قدر من التكامل على كافة المستويات، سواء في الداخل أو من الجانب الإقليمي والدولي، وهو ما تتحرك عليه الدولة المصرية على مسارات متزامنة ومتوازية، وهو ما يبدو في حالة الانفتاح التي تتبناها في علاقاتها الدولية، لتتجاوز الاقليم الضيق نحو أفاق أوسع، بل وساهمت بشدة في تحويل الحالة الصراعية بين الخصوم الاقليميين في مناطقها الجغرافية إلى "حوار"، في إطار سياسة تعتمد إلى حد كبير على فكرة "تصفير" الخلافات، أو على الأقل تخفيف حدة الصراعات، جنبا إلى جنب مع زيادة وتيرة التعاون في إطار مواجهة الأزمات المحدقة بالجميع، وما تمثله من تهديدات حقيقية للسلم والامن الاقليمي.
ولعل الحديث عن فكرة "تصفير" الخلافات، والتي تبنتها مصر على المستوى الدولي، عبر تحويل الصراعات الإقليمية إلى حالة حوار، تتجسد بوضوح وبصورة مباشرة في الداخل، عبر "الحوار الوطني"، والذي يمثل انسجاما مع توجهاتها، في ظل العمل على تحقيق الشراكة بين كافة الأطياف السياسية والمجتمعية دون إقصاء، بل وتفعيل دورهم، عبر تمهيد الطريق أمامهم لتقديم رؤاهم ومقترحاتهم، سواء لحل الأزمات الراهنة أو رسم صورة للمستقبل، في ظل تحديات كبيرة، وحالة من الغموض تحيط بالعالم، جراء تواتر الازمات.
والطريق نحو "تصفير الخلافات"، في رؤية الدولة المصرية، يقوم في الاساس على تحقيق مبدأ "الشراكة"، عبر التركيز أولا على التوافق فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، سواء كانت الأزمات الراهنة، أو التحديات المستقبلية، لتنطلق منها حالة "الحوار"، إلى القضايا الخلافية، والتي يمكن الوصول فيها إلى أرضية مشتركة، من شأنها تحقيق حالة من "الذوبان"، بين كافة الاطراف الفاعلة في المجتمع المصري، سواء سياسية أو مجتمعية أو ثقافية أو دينية أو حتى رياضية، داخل "بوتقة" الوطن الواحد الذي يساع الجميع، بمختلف انتماءاتهم.
ربما كان الوصول إلى مشهد انطلاق حالة "الحوار"، والذي اتسم بقدر كبير من الإبهار، يحتاج إلى عمل شاق استمر لسنوات طويلة، لتهيئة البيئة المصرية، وهو ما يبدو في العديد من الخطوات، بدءً من المشروعات التنموية العملاقة، واقتحام العشوائيات، والمحافظات والمدن المهمشة، وتفعيل دور الفئات التي عانت إهمالا ضخما لعقود طويلة، على غرار الشباب والمرأة وذوي الهمم، ناهيك عن إطلاق حملات ومبادرات لإصلاح الأفكار المغلوطة التي كان يعتنقها قطاع كبير من المجتمع، وهي الخطوات التي ساهمت في خلق قدر كبير من التقارب بين كافة الفئات المشاركة، يمكن من خلاله البدء في "الحوار"، في ضوء إدراك كامل لطبيعة التحديات الراهنة، مما يساهم بصورة كبيرة في تعظيم المشتركات والتخفيف من حدة النقاط الخلافية.
وهنا أدركت الدولة المصرية "الخطيئة" العظمى التي ارتكبتها العهود السابقة، والتي اعتمدت نهج التهميش المطلق تجاه الجميع، وهو ما قوض أي دور حقيقي، سواء للكيانات السياسية أو الفئات المجتمعية، بينما توارت قيمة الجغرافيا، في ظل تجريف العديد من المناطق وارتكاز العملية التنموية على مناطق بعينها دون الأخرى، مما أدى في نهاية المطاف إلى فوضى سياسية نجم عنها انفجار مجتمعي في العقد الماضي توقفت على إثره البلاد عن الحركة لسنوات.
وفي الواقع، تبدو عملية إدماج كافة الأطياف بمختلف توجهاتهم، فرصة مهمة واستثنائية وغير مسبوقة، للكثير من أطراف المعادلة المصرية، ليس فقط للمشاركة الفعالة في خدمة المواطنين عبر تقديم رؤى حقيقية وقابلة للتطبيق فيما يتعلق بمجابهة التحديات التي تواجههم، بعيدا عن المصالح الضيقة، والتي لا ينبغي أن تطغى بأي حال من الاحوال على المصلحة العامة، وإنما أيضا في المساهمة بصورة كبيرة في بناء حياة سياسية على أسس سليمة، بعيدا عن حملات التشويه والتشويه التي طالما انغمست فيها العديد من القوى السياسية في مراحل سابقة، لتحقيق مصالح شخصية، لتفشل في النهاية في تقديم أوراق اعتمادها للمواطن المصري، وكسب ثقته وبالتالي لم تحقق أي قدر من الإصلاح.
وهنا يمكننا القول بأن الحوار الوطني هو بمثابة حلقة جديدة من مسلسل البناء الذي تبنته "الجمهورية الجديدة"، عبر بناء حياة سياسية، تقوم على الحوار وابداء الاراء بحرية في كل ما يشغل بال المواطن، وهو ما يمثل امتدادا لمسيرة بناء طويلة اعتمدتها الدولة منذ سنوات، عبر المشروعات العملاقة ومبادرات لتحسين حياة الانسان وإصلاح أفكاره، جنبا إلى جنب مع تفعيل دور الفئات المهمشة للاستفادة من قدراتهم في تحقيق أهداف المجتمع ومجابهة التحديات