إنتاج كثيف ومستوى جيد ومُتابعة حاشدة، هكذا يتلخّص موسم الدراما الرمضانية الأخير فى أبعاده الإنتاجية والجماهيرية، صحيح أن هناك تفاوتًا يحتمل النقاش من حيث التقديرات الفنية والتفضيلات وإحكام الخطاب؛ لكن الحصيلة أنه كان موسمًا جديرًا بالنظر من زوايا تحليلية أعمق، سواء فى الرواج الكاسح كما فى حالة «جعفر العمدة»، أو النضج بصريًّا وسرديًّا وموضوعيًّا كما فى «تحت الوصاية»، وما بينهما من تنوَّعات أتاحت معروضًا يُكافئ قماشة الطلب المُتداخلة فى نسيجها وألوانها؛ وأتصوّر أن «وضعية المرأة» ضمن نتاجات الموسم واحدة من أبرز الأمور التى تستدعى الالتفات بجدّية.
قدّمت الشركة المتحدة ثمانية عشرَ عملاً، حضرت المرأة بطلاً وحاملاً تسويقيًّا صريحًا فى سبعة منها، وسجلت حضورًا لامعًا فى الفاعلية الدرامية أو فى القيمة التجارية وعناصر الشعبية والرواج فى ثمانية.. وخارج «المتحدة» تضمّن الموسم خمسة عشر عملاً، انفردت المرأة بالواجهة فى خمسة وتشاركت البطولة بمساواة كاملة فى الحيّز والأثر وعناصر التسويق فى عملين، إجمالاً كانت المرأة شريكًا أصيلاً وفاعلاً فى غالبية الأعمال، وبطلاً مُتقدّمًا على الجميع فى قرابة النصف، وموضوعًا من حيث يمكن القول إننا إزاء «دراما نسائية» أو تنظر للعالم بعيون النساء فى نحو أحد عشر عملاً، بما يتجاوز ثُلث حصيلة الموسم تقريبًا.
تسويقيًّا برزت: يسرا وياسمين عبدالعزيز ومنى زكى ودنيا سمير غانم ونيللى كريم وروبى وريهام حجاج كروافع، ذات قيمة تجارية وجماهيرية، استندت إليها سبع تجارب من موسم «المتحدة»، وفى الموضوع قدّمت مسلسلات: تحت الوصاية، عملة نادرة، جميلة، حضرة العمدة وعلاقة مشروعة، قضايا تخص النساء، أو سردًا مُخلصًا لرؤاهن بشأن الغلاف الاجتماعى وسياقات القانون والعادات، فحضرت قضايا الميراث وسطوة الذكور والخيانة والعنف الزوجى والمشكلات الأسرية وختان الإناث ومعاناة الأرامل بمستوى مُتقدّم من الوضوح والمكاشفة، لم تصبح فيه المرأة موضوعًا سلبيًّا للقهر والتسلُّط، أو إسفنجة تمتص أمراض المجتمع برضوخ ودون مُقاومة؛ إنّما تصدّرت الواجهة مُبادرًا وفاعلاً أكثر من كونها مفعولاً به.
لعبت المرأة دورًا تأسيسيًّا فى بدايات السينما. لم يغب أثرها المُحرّك للدراما عن أول فيلمين «الأزهار الميتة» و«شرف البدوى» فى 1918 و1922، وتقدّمت شوطًا أبعد فى «ليلى» و«قبلة فى الصحراء» 1927، بحيث أصبحت بطلاً أو موضوعًا تنحاز له الدراما، مرورًا بظهور «نادرة» كأول مطربة فى فيلم غنائى، ما بعد فترة التأسيس ارتقت أم كلثوم وليلى مراد إلى مرتبة البطل الصريح، الذى يُقدّم مستوى مُقنعًا فى تصدر الأعمال فنيًّا وتجاريًّا، بعدها تقدّمت فاتن حمامة وشادية وماجدة، ومن السبعينيات تتابعت أسماء: سهير رمزى ونادية الجندى ونبيلة عبيد، وما بعد الألفية انحصرت القائمة تقريبًا فى ياسمين عبد العزيز وربما مى عز الدين أحيانًا، الآن لا يُمكن القول إن لدينا قائمة مُعتبرة من النجمات اللواتى يقدن أعمالاً سينمائية من بابها، ويستطعن إقناع الجمهور بالذهاب إلى دور العرض من أجلهن، دون الحاجة إلى إسنادٍ من الذكور، وفى الموضوع ربما لم تعد شواغل النساء مُرتكزًا مهمًّا فى أغلب المعروض، ويغلب التنميط على أدوار المرأة، حتى أن دفعها للدراما قد يتأسَّس على قيم الضعف والسلبية، أو الإغراء والشهوانية، أو «حافز الظلّ» المعنوى فى صورة الأم أو الحبيبة المُخلصة.
حضور المرأة فى الشطر الأوّل شغل مساحات تقدّمية للغاية. خلال 10 سنوات منذ 1929 تقدّمت أربع مُخرِجات: عزيزة أمير، وفاطمة رشدى، وبهيجة حافظ وأمينة محمد. ربما لعبت قُدراتهن الإنتاجية وقتها دورًا فى أن يفرضن رؤىً نسائية على المجال الفنى، بقدر ما يحتمل السياق الاجتماعى؛ لكن غابت المرأة بعدها عن تلك المساحة حتى الثمانينيات تقريبًا، مع ظهور نادية حمزة وإيناس الدغيدى، اللتين انتزعتا حيّزًا أوسع وأعمق لقضايا المرأة؛ لكن نتيجة ذلك تباطأت مسيرتهما لتُوقّع الأولى 13 فيلمًا وعدة سهرات تليفزيونية، والأخيرة 16 فيلمًا فقط، فى قرابة أربعين سنة. الآن تطول قائمة المُخرجات؛ لكن قضايا المرأة ما تزال باهتة وخافتة الصوت سينمائيًّا، وحتى فى أغلب تجارب المُخرجات التليفزيونية لا تحضر النساء موضوعًا للدراما، ولا بطلاً فى الواجهة. المسؤولية لا تقع على عاتقهن بالطبع، إذ ينبنى هذا السياق على ركائز ذكورية حكمت مسار الإنتاج والعرض منذ بداية التليفزيون، وفى السينما والمسرح قبله، ما يجعل التحوّلات الحثيثة حاليًا تقدّمًا مُهمًّا يسترعى الانتباه؛ من حيث إنها تفكيك جاد وشامل لميراث طويل من تحكُّم الذكور، حتى لو لم تحتمل الدراما ذلك، ومن دفع النساء إلى مُؤخّرة الصورة ولو كان التكوين يستدعى تقدُّمهن على الجميع.
بدأت الدراما على أكتاف الرجال؛ لأن البناء الاجتماعى بقيوده المفروضة على النساء لم يسمح لهن بتشارك المجال العام، وبطبيعة الحال حرمهن من المعرفة وصادر خيالهن وأغلق أمامهن أبواب الإبداع.. لاحقًا تقدّمت المرأة مع أول شعاع ضوء تجلّى لها. الملمح الملهم أن ظهورها أنقذ الدراما وفن التشخيص من مصير مُظلم؛ إذ فى بادئ الأمر كان الرجال يلعبون أدوار النساء، وقد تسبّب ذلك فى طرد «القبانى» من الشام، وحصاره بالهجوم فى القاهرة؛ اتُصالاً بما قيل إنه ترخُّص وبذاءة وانحلال للقيم بأن يرتدى الرجال ملابس النسوة ويأتون أفعالهن. فتحُ الباب لـ«المرأة/ الفنانة» سمح بتهذيب تلك الحالة، وفرض وقارًا على التعاطى معها دراميًّا، وأنقذ المسرح ومُستقبل التمثيل من مصير قاسٍ تحت وطأة الأعراف والقيود السائدة.
كان الظهور خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وضمّت القائمة طابورًا طويلاً من المُمثّلات والمُطربات: هيلانة بيطار، كاترين، ألمظ، لبيبة ماللى، مريم ماللى، مريم سماط، هيلانة سماط، حنينة سماط، ليلى، لطيفة عبدالله، ميليا والسويسية، وغيرهن. وتضمّن بروجرام فرق النقاش والخياط والقبانى واسكندر فرح عروضًا نسائية الموضوع ظاهريًّا، مثل: عايدة، مى، زنوبيا، بلقيس، ذات الخدر، الباريسية الحسناء، كليوباترا، ولّادة، ابنة حارس الصيد، قوت القلوب، بنت كسرى وعفيفة، ولم تخلُ القائمة من موضوعات مثل: غانية الأندلس، دليلة المحتالة، ومطامع النساء، وبالإجمال كانت المرأة هامشًا مفعولاً به: أوّلاً لقلّة العاملات بالفن، وثانيًا لسطوة الذكور وسيطرتهم؛ فكانت النظرة فى أغلبها سلبيّة تستقيم مع القيود الاجتماعية، وترضى الذكور بوصفهم جمهور المسرح وقتها، ولم تتغيّر الصيغة مع دخول القرن العشرين واتّساع حضور المرأة مسرحيًّا، أو انطلاق السينما؛ إذ ظلّت موضوعًا سلبيًّا وفق الرؤية الذكورية، وحُصرت فى وضعيات القهر والإخضاع وإبراز هيمنة الرجال، أو الإغواء إمًّا لشخوص الدراما أو للجمهور نفسه كوردة مُلوّنة فى شبّاك التذاكر، بأقل قدر من فرص التأثير فى الحكايات، وفى صناعة الفن.
لم تُقصّر المرأة فى اغتنام ما أُتيحَ لها من فُرص؛ لكن قيود المجتمع كانت أكبر من طاقة المقاومة، صحيح أن حضورها تقدّم طرديًّا فى الزمن، وفرضت قضايا وموضوعات بمستوى نسبى من البروز الصاعد؛ إلا أن الأمر ظلّ نتاجًا للجهد والمحاولات الفردية، ولم يكن منهجًا مُستقرًّا أو مسارًا يرتكز إلى صيغة مُؤسّسية. أهمية ما يحدث فى السنوات الماضية، وتنامت مساحته خلال الموسم الأخير، أنه يُشكّل حالة أقرب إلى الخط الفكرى المُتّصل، تدعمها رؤية لدى قطاع من الفاعلين فى سوق الإنتاج، ويُعضّدها مناخ عام يبدو أكثر إنصافًا للمرأة عن كل ما سبق. باختصار، تستجيب سوق الدراما بكفاءة وإيقاع مُتسارع لتوجّه لدى الدولة نحو إعادة تموضع المرأة ضمن مكوّنات المجتمع وعناصره الفاعلة، وإجراءات مُتنامية تنحو إلى التمكين ورفع الحضور والتمييز الإيجابى، من هنا لا تعكس الدراما تفاعلات الواقع ولا تُقدّم تجلِّيًا فنيًّا لها فقط، إنّما تحفر عميقًا لتُجذّر تلك الرؤية وتمنحها مفاعيل جادة ومُؤثّرة داخل البنية الاجتماعية، بل وفى وعى العاملين بالفن أنفسهم.. المرأة اليوم أكثر حضورًا فى المجال العام، وفى الدراما أيضًا؛ وهو أمر بقدر ما فيه من إنصاف وتعويض، يصبُّ فى صالح المجتمع نفسه مُستقبلاً، نحتاج إلى تغذية تلك الحالة باهتمام أكبر بقضايا المرأة، واشتباك أعمق معها، وفرص أوسع للنجمات من كل الأجيال، وهو طموح مشروع والتزام واجب؛ فليست النساء وردةً فى عُروات الذكور وتصوّراتهم عن الدراما؛ وبقدر ما يحضرن فى الواجهة ومساحات الفعل الاجتماعى، والفن أهمّها، يمتلك المجتمع نفسه أسباب الرُشد، ويستجمع طاقته ليسير، بعافية وانتظام، على قدمين صحيحتين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة