حازم حسين

حوار وطنى مشمول بالنفاذ.. ماذا بعد وعد الرئيس بالاستجابة دون قيد أو شرط؟

الأحد، 18 يونيو 2023 02:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أحد يملك الحقيقة، أو يحتكر الحديث عن مصلحة الوطن، ولا يحق لشخص أن يرفع سبّابة الاتهام بالخيانة فى وجه غيره؛ طالما أن الأخير لم يُجاهر بالعداء ولم يلتحق بأجندات مضادة للبلد وناسه، تلك أهم رسالة وصلتنى من حديث الرئيس السيسى فى المؤتمر الوطنى للشباب قبل أيام، وأن تأتى فى مقام الحديث عن الحوار الوطنى وأجوائه ومُؤشّراته؛ فإنها رسالة إلى نزاهة الطاولة التى يجتمع عليها المصريون، وإلى اتساع صدر القيادة والمؤسَّسات لكل ما يُثار من نقاشات، أو يُسجّل من انتقاد وملاحظات؛ طالما تحقّق الاتفاق مُسبقًا على الشراكة وحُسن النيّة، وكانت غايته بحث الحلول والأفكار على أرضية مُتجرّدة بيضاء، أهمية الرسالة أنها لم تأت عامّةً وبروتوكولية من دون التزامات؛ إذ ترافق معها تعهُّد رئاسى لا يقبل التأويل بتنفيذ المُخرجات محل الاتفاق.
 
رفع «الحوار» سقف التشابك السياسى إلى مستويات ربما لم يكن يحلم بها أشدّ المعارضين رومانسية؛ لا سيما أنه جرى بمبادرة مُباشرة من السلطة فى أوج قوّتها، أُديرت نقاشات ساخنة فى أروقة اللجان، وطُرحت أمور تقع فى صلب الانتقاد المباشر، واستمع المسؤولون والسياسيون الداعمون للدولة كلامًا ما كان يمكن أن يقبلوا بالتداول فيه قبل أسابيع أو شهور، على ما فى الحالة من مداخل يُمكن أن يُفسّرها المعارضون انتصارًا أو خصمًا من الجبهة المؤيِّدة؛ فإنها فى واقع الأمر تحمل إحراجًا مُباشرًا لمناوئى المنظومة ومُختصمى الحوار من داخله؛ لأنها تنبع من داخل المؤسَّسات وتكتسب رمزيتها من انفتاح القيادة السياسية وإسباغ حمايتها على تلك المساحة، وهى أرض لم تتكبّد الأحزاب الواقفة على يسار النظام أيّة أعباء لاكتسابها، والأهم أنها اختبار جاد لاتساقها مع خطاباتها الإصلاحية، وميدان لقياس قدرتها على إدارة الخصومة السياسية على قاعدة براجماتية ناضجة. 
 
فى الخلاصة، قد يكون التوافق مسؤولية مُشتركة على الأطراف جميعًا؛ لكن عبء الفشل فى إنجازه ربما يقع كاملاً على أكتاف القوى الآتية من سُبات طويل، كان يحلو لها أن تُعلّقه على شمّاعة ضيق المجال العام وفى رقاب مُتصدّرى المشهد، وبعدما قطع المتن السياسى حصّته من الطريق نحو الالتقاء بالهامش؛ سقطت الحجّة القديمة وفقدت قدرًا غير هيّن من الوجاهة والأعذار.
 
إعادة إنشاء المعادلة على تلك الصورة لا يعنى أن الوصول للتوافق أمر ميسور طوال الوقت، أو فى كل الملفات؛ إنما قد يشير إلى حاجة الأحزاب وقوى السياسة للتحلُّل من «الدوجما» القديمة، وقبول منطق أن تربح أمورًا مقابل تفويت غيرها، القاعدة أن عناوين الشأن العام لا تقبل الصبّ فى قوالب رياضية؛ وإذا انطلق الجميع من إيمان بنسبية النظر إلى الوقائع، فقد يقبل كل طرف بحقيقة أنه لا يملك الحل النهائى، عند تلك النقطة يصبح التوافق ضمانة المكسب المُقنع لكل الأطراف، على الأقل من زاوية أنه يُمرّر حصّة من قناعات كل فريق، ولا يجعله غائبًا أو خارج المسارات التى يُعضّدها الآخرون. إذا كان الداعى إلى «الحوار» أعلن التزامه بإنفاذ مُخرجاته؛ فإن المُتّفق عليه لن يكون محل جدل فى التطبيق، بينما الموضوعات محل التنازع ستُترك له المُفاضلة بين برامجها المقترحة، وسيكون على الخاسر وقتها أن يلوم نفسه أوّلاً؛ إذ تنازل عامدًا عن الأجندة المشتركة، لصالح أن يكون خيارًا صداميًّا مع خطط بديلة.
 
ما يزال قطاع من النخبة غارقًا فى مراهقة يعوزها نضج النظرة للحالة الناشئة، هؤلاء يبذلون جهدهم فى تصوير الحوار الوطنى على أنه محاولة لاحتواء المعارضة، أو مناورة تسويق للسلطة، والثغرة فى تلك الرؤية أنها تتمترس خلف راحة المواقف المُسبقة، بدلاً من السير فى عناء التجربة؛ لكن الأخطر أنها تقع بين حدّين متناقضين: الأوّل يرى نفسه هشًّا قابلاً للهضم، والثانى يبالغ فى تقدير حجمه كأنّ شيئًا قد تغيّر فى توازنات المشهد، أما حديث الدعائية فربما يتجاهل أن الدولة لم تسلك هذا المسار وقتما كانت تواجه حربًا شعواء من الخارج بعد 2013، وأن نبرة الانتقاد الخارجية عند أدنى مناسيبها فى السنوات العشر الماضية، فضلاً عن أن الأحزاب فقدت بريقها وما كانت تحوزه من زخمٍ شعبى، إلى حدِّ أنها لم تعد فاعلة داخل هياكلها، حتى تكون مُفيدة أو مُؤثّرة فى التسويق السياسى، اللحظة الراهنة ليست كأيّة محطة سابقة؛ وإن تشابهت التحدّيات، وعلى قوى السياسة جميعًا التواضع قليلاً؛ للاقتناع بأنها تلعب من نقطة الصفر، ما يُرتّب النظر من زاوية مُغايرة للمبادرة المُنشئة للحوار، فهى إن كانت تُعبّر عن حاجة لدى الدولة إلى التوافق؛ فإنه احتياج التكامل لا العَوَز، وينبنى من أرضية الثبات لا الاهتزاز، خاصّة أننا إلى اللحظة لسنا فى وارد الحديث عن تيّار قادرٍ على التقدُّم مُنفردًا أو طرح بدائل صُلبة ومُقنعة، حتى لو كانت لقواعده قبل عموم الناخبين.
 
على هامش مؤتمر الإسكندرية، الأربعاء الماضى، قال رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطنى إن المشاركين توافقوا على ثلاث قضايا: الوصاية على المال، ومفوضية التمييز، وحرية تداول المعلومات، ورحب الرئيس مُعلنًا استعداده للتعاطى مع المُخرجات وإنفاذ كل ما يتوصّل إليه المُتحاورون دون قيدٍ أو شرط، بحسب تعبيره، طالما أنه يقع فى نطاق صلاحياته الدستورية، أما ما يخرج عنها فسيُرفع إلى سُلطة التشريع؛ لإجراء مقتضيات العمل البرلمانى، وبالطبع سيجرى ذلك على قاعدة الاستقلال والفصل بين السلطات، الرسالة واضحة بشأن حياد المظلّة الرئاسية أمام منصّة الحوار، وقطع الطريق على أيّة محاولة للإيحاء بهندسة المشهد أو انطوائه على مُناورة، وداخل تلك الحالة من المُتوقّع أن تتنوّع المواقف بين ملفات تشق طريق العبور السريع، وأخرى تخضع لمفاضلة رأس السلطة التنفيذية أو مداولات الكُتل النيابية، لا يمكن قراءة هذا السلوك على أىّ وجهٍ سوى أنه موقف أبيض من أرفع مُؤسَّسات الدولة، وبعدما يُمارس المتحاورون حقَّهم فى الاختلاف؛ لن يكون منطقيًّا إلا القبول بحقّ صاحب الدعوة فى المُفاضلة والاختيار.
 
يقترب «الحوار» من منتصف الطريق؛ فقد أنجز نحو 50 من إجمالى 113 موضوعًا، بحسب المستشار محمود فوزى، هناك عناوين عديدة أقرب للتوافق الناعم؛ لكن القائمة لا تخلو من قضايا مُرشّحة للتنازع واختلاف وجهات النظر، ومسارها أن تُرفع الاقتراحات ليختار الرئيس منها؛ لو كانت ضمن صلاحياته، أو يحيلها للبرلمان الذى يُمارس ولايته الكاملة عليها، ما قد يسفر عن مُخرجات مُطابقة أو مشابهة أو مختلفة تمامًا عما توصّلت إليه النقاشات، هنا يفرض التسليم بالضوابط المُعلنة، أن يقبل الجميع ما ستؤول إليه الأمور، وما دون ذلك قد يضع المختلفين أمام عدم اتّساق جديد: القاعدة أن يكون للرئيس الخيار فى المسائل الخلافية، وهذا محل إقرارٍ عام بصرف النظر عن الرأى المُرجّح، أى أن القبول سابق على نتيجة المُفاضلة، ولن يكون منطقيًّا أن يرفض طرفٌ النتيجةَ لو لم تأت فى صالحه، أما فى المسار الثانى فليس من سلطة الرئيس أو غيره أن يُقوّض صلاحيات البرلمان، لا سيّما أن الحوار هيئة استشارية وليس بديلاً عن المؤسَّسات، صحيحٌ أنّ لمقام الرئاسة قيمةً معنوية يمكن أن تُرجِّح رأيًا على آخر فى نفوس فصيل من النواب؛ إلا أن اتجاه المعارضة لطلب ذلك أو الإيحاء به يُوقعها فى منزلق صعب؛ إذ يتصادم مع شعاراتها عن استقلالية السلطات، ويضعها فى حيِّز التغوّل على الدستور بينما تُؤسِّس مشروعية خطابها على ادّعاء احترامه والدفاع عنه، هكذا قد لا تجد المُعارضة إلّا خيارًا من ثلاثة: الإقرار الكامل بالمعايير المُتّفق عليها سلفًا، أو الالتفاف على نفسها وإصابة أقدامها برصاص التناقض، وقبلهما وأهم منهما التوافق على قاعدة الربح بالتراكم لا إطاحة المُنافسين بالضربة القاضية.
 
تُوفّر الإحصاءات الرقمية للحوار مُؤشّرًا دالًّا على تعاطى الأطراف المختلفة مع التجربة، مرّت 3 أسابيع وينطلق الرابع اليوم، وفى سابق المحطّات عُقدت 31 جلسة بمشاركة 2600 مُتحدّث و65 حزبًا، ومتابعة 16 سفارة ومُنظّمة أجنبية و66 وسيلة إعلام محلية وخارجية. نسبة النساء 40% من المشاركين، وهو أمر يُوجب الالتفات إلى ضرورة ترجمة تلك الفاعلية فى فُرص سياسية ومواقع تنفيذية أكبر، أما الموضوعات محل الاهتمام فكانت بالترتيب: التعليم، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، والأحزاب والممارسة السياسية والتمثيل النيابى، هناك اهتمام ملموس بالمحور السياسى؛ لكنه لم يطغ على المحورين الاقتصادى والمجتمعى أو يطرحهما إلى الهامش، أما أهم الاستخلاصات فتخص القدرة على ترشيد الاختلاف والتناقضات، والجلوس إلى طاولة واحدة رغم عُمق التفاوت فى الرؤى والأفكار. من تلك الزاوية يُمكن القول إن «الحوار» أحدث حراكًا إيجابيًّا كان مطلوبًا للغاية، ويظل صالحًا للبناء عليه لجهة تطوير آليات الاشتباك بمنطق التكامل لا الشقاق، لا سيّما أنه أفرز كوادر ناضجة، وفتح مساحة لبناء تحالفات جديدة، مثل «كتلة الحوار» التى انبثقت من أروقته؛ وذلك دونما شطبٍ أو إلغاء للقوى القائمة، أو مُصادرة على حضورها وإمكانية أن تلعب أدوارًا فاعلة أمام المنافسين وتحت نظر الشارع.
 
إن شئنا توصيف الحالة الجارية فى الحوار الوطنى؛ فالأقرب أنها مباريات تمهيدية ضمن سباق طويل، وليست أدوارًا إقصائية يعبرها الفائز ويُغادرها المهزوم. إنه منافسة سياسية على قاعدة تجميع النقاط، وربما المُستهدف أصلاً أن يخرج الجميع فائزين، أو على الأقل ألا يكون هناك خاسر، بالمعنى الصفرى الذى تترتّب عليه هيمنة طرف وغياب آخر، من الواجب أن ينظر إليه الجميع من تلك الناحية، وألا يتغافلوا عن ميزة العودة إلى سياق صحى تتنفّس فيه السياسة وتستعيد عافيتها الكاملة؛ إذ بغض النظر عن طبيعة المخرجات النهائية وما يمكن أن تؤول إليه أمور النقاش، فإن استمرار حالة الحوار تضمن إرساء ركائز قادرة على حمل اللعبة السياسية مُستقبلاً، وإنضاج مُمارسات كل الأطراف، إلى المدى الذى لا يجعل انتصار رؤية أحدهم نهاية المطاف للآخرين.
 
كانت رسائل الرئيس واضحة، والثابت فيها أن لا رغبة لدى الدولة فى تسيير الحوار ونتائجه نحو وجهة مُحددة سلفًا، ومع إعلانه أنه «لا قيد أو شرط» فى إنفاذ المُخرجات المُتّفق عليها، تذهب الكرة إلى أقدام المتحاورين، وتصبح جَردة الحساب النهائية فى عهدتهم بالدرجة الأولى، بين التطرُّف يمينًا أو يسارًا تقع دائمًا مساحات وسيطة، صالحة للقاء وتضمن حدًّا معقولاً من الإقناع المُتبادل، ومشمولاً بالنفاذ إن رُفع إلى مقام الرئاسة خالصًا من التنازع، قد يستسهل البعض إبراء الذمة بالتعالى على الحالة ومُقتضياتها، أو التترُّس خلف شعارات الفرز السياسى، وتصوير الأمر صراعًا وجوديًّا لا يقبل القسمة؛ أمّا النضج والعقلانية فيقتضيان أن تُوضع الأمور فى نصابها، وتُدار الفرص بتوازنٍ بين المُمكن والمأمول. إن نجح أهل السياسة على تنوُّعهم فى عبور الامتحان، دون قيد أو شرط أيضًا؛ فقد يُحرزون مكسبًا تاريخيًّا لن يكون ما بعده كما قبله، ولن يكون فى صالحهم وصالح السياسة فقط؛ إنما للوطن وناسه ومُستقبلهم أوّلاً وقبل كل شىء، وتلك غاية سامية يقول السياسيون إنها مطلبهم الدائم، ويُفترض أن يُترجموا الأقوال النزيهة إلى أفعال عاقلة، وقابلة للحياة والاستمرار، مهما كانت التحدّيات.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة