عقد كامل من الزمان مر على انطلاق ثورة 30 يونيو، والتي تمثل طوق النجاة لمصر، بعد سنوات من الفوضى، التي كادت أن تضع البلاد والعباد على حافة الهاوية، بعد حالة من الاضطراب دامت لأكثر من عامين، إلا أن الملفت للانتباه فيما يتعلق بثورة المصريين هي قدرتها على تحقيق حالة من التوازن، سواء فيما يتعلق بالسياسات أو التوجهات التي تبنتها الدولة المصرية، في الداخل والخارج، وهو ما ساهم في النجاح منقطع النظير الذي حققته الدولة المصرية في تجاوز التحديات التي تلت بيان "الخلاص" الذي أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، عندما كان يشغل منصب وزير الدفاع في حينه، وعلى رأسها الحملات التي تبنتها قوى دولية بعينها، لتقويض الإرادة التي عبر عنها ملايين المصريين في الشوارع والميادين.
ولعل قدرة الدولة المصرية في تحقيق "التوازن" المنشود تجسدت في الانتقال من الحالة "الثورية" التي غالبا ما تتسم بقدر كبير من "الخيال" أو بالأحرى "الرومانسية" السياسية، التي تسعى إلى تحويل بقعة من الأرض إلى المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون، في لمح البصر، إلى أرض الواقع عبر تشخيص الأوضاع بصورتها الصحيحة، والعمل على تقديم العلاج تدريجيا، وهو ما تحقق من خلال استغلال الحماسة "الثورية" والرغبة الملحة في الإصلاح، في أعقاب الثورة، ثم اتخاذ خطوات عملية من شأنها مواكبة الواقع الداخلي والإقليمي والعالمي، بعيدا عن الشعارات المزيفة والوعود الكاذبة.
"التوازن" يمثل في ذاته أحد أهم الإنجازات التي تحققت في أعقاب الثورة المصرية، خاصة وأن الثورات دائما ما يعقبها حالة من الانجراف، نحو توجه بعينه، غالبا ما يمثل تغييرا جذريا على التوجهات القائمة، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد المشابهة، سواء في مصر أو دول العالم، عبر الانقلاب على مبادئ الدول وثوابتها، لإبراز قدر من التغيير أمام الرأي العام، يعكس الخروج عن الأسس التي كانت تتبناها الأنظمة السابقة، فأصبح التغيير التدريجي بمثابة الشعار الذي تبنته الدولة، سواء فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، أو الحياة السياسية، أو الجانب المجتمعي، وحتى العلاقات الخارجية مع المحيطين الدولي والإقليمي، وهو ما يبدو في العديد من الأولويات التي وضعتها الدولة على عاتقها، كالحرب على الإرهاب ودحض الأخطار التي تمثلها الميليشيات المسلحة، وكذلك تحقيق التنمية الاقتصادية في صورتها المستدامة، على اعتبار أنها الأسباب الرئيسية التي دفعت المصريين للخروج إلى الشوارع سواء في 2011 أو في 30 يونيو، وهو ما يتواكب مع الدوافع الثورية، بينما يضاهي الواقع في الوقت نفسه.
بينما انطلق الإصلاح السياسي، من المجتمع، عبر التركيز على القطاعات المهمشة، بدءً من الشباب والمرأة، وهما الفئتان اللتين اندلعت منهما شرارة الثورة، لتنتقل بهما الدولة نحو فئات أخرى على غرار ذوي الهمم، وسكان العشوائيات، وحتى أهالى المحافظات والمدن القرى الذين عانوا قدرًا كبيرًا من الإهمال من مشارق "المحروسة" إلى مغاربها، ليكون إيذانا لإطلاق شراكة حقيقية، يمكن من خلالها إشراك كافة الفئات في صياغة القرار، ورسم مستقبل الدولة المصرية، وهي الرؤية التي استلهمتها الأحزاب، والتي سعت بدورها لتوزيع الأدوار، لتصبح مؤهلة للقيام بدور أكبر في الحياة السياسية، وهو ما يبدو في المشاركة الفعالة للعديد من الأحزاب في "الحوار الوطني"، والذي يعد أحد أهم ثمرات ثورة 30 يونيو، على أساس سليم بعيدا عن الرؤى القائمة على الاستئثار بالرأي لفئة بعينها، مع تهميش الفئات الأخرى، بينما اعتمدت العلاقات الدولية نهجا متوازنا، يبتعد تماما على حالة الدوران في فلك قوى بعينها، عبر تنويع التحالفات وتجديدها، والعمل على ما سبق وأن أسميته في مقال سابق بـ"اكتشاف النقاط الميتة"، في دوائر مصر الدبلوماسية، وهو ما بدا في التقارب مع الصين وروسيا، والتوغل أوروبيا نحو قبرص واليونان، والعودة مجددا إلى المحيط الإفريقي، وتعزيز الدائرة العربية ودعم انفتاحها على منطقة الشرق الأوسط.
عبقرية 30 يونيو، في جوهرها، لا تقتصر على الإنجاز اللحظي للثورة، والذي تحقق باستعادة الدولة المصرية، من براثن الإرهاب، وإنما في تحويل "توابعها" من الحالة "الثورية" تدريجيا نحو حالة مستدامة تتسم بقدر كبير من الواقعية بهدف تحقيق إصلاح حقيقي، يشمل كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، مرورا بالجغرافيا، وحتى العلاقات مع المحيط الدولي، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن النجاح ارتبط في الأساس بالقدرة على الخروج "الآمن" من الحالة الثورية، في اللحظة المناسبة، عبر تحقيق التدرج في التعامل مع مختلف التحديات.
وهنا يمكننا القول بأن التدرج في الحالة المصرية، في أعقاب ثورة 30 يونيو، يعتمد في الأساس نهجا يقوم على التحول من الحالة الثورية نحو الإصلاح ذات الطبيعة المتدرجة، وهو ما يتواكب مع متطلبات كل مرحلة، رغم التقارب الزمني نسبيا بين مختلف المراحل، وهو ما يعكس حالة من المرونة التي حظت بها الدولة المصرية في التعامل مع مختلف المعطيات، والتي ارتبط بعضها بأزمات عميقة على غرار اندلاع الوباء، وبعد ذلك مع بدء الأزمة الأوكرانية، وغيرها من المنعطفات، التي ربما لم تكن تحتمل تعاملا "ثوريا" في ظل حساسيتها وصعوبتها على الداخل المصري.