"أمك هى التى تتقبلك كما أنت، تحب كل ما فيك، وتدعو لك بالخير أينما حللت وحيثما نزلت، وترجو سعادتك وغناك، ولا تريد منك جزاء ولا شكورا، فكل ما تريده أن تكون راضيا وسعيدا وبخير وأمان، هذا درس من دروس أمى – رحمها الله - أتذكره وأنا ذاهب إلى دارها من جديد ولم يمض على رحيلها سوى شهرين ونصف، فدعونى أحدثكم عن أمى وأشهد أنى معجب بها وأحبها حبا جما فلا زلت أراها في حياتى وأشم رائحتها وأسمع صوتها، لأنى لم أرَ حباً كحبّها، ولا قلباً كقلبها.
أمى - يا سادة - لا تعرف في حياتها إلا الرضا والكفاح وجبر الخاطر، أما عن الرضا فهى أعظم من علمتنى معناه وأشعرتنى بحلاوته، فكانت رحمها الله تقولى لى دوما " ما حدش يملك من أمره إلا الرضا والصبر على ما قدّر الله له" فعاشت دائما راضية بحالها وبرزقها، وراضية على أبنائها وراضية حتى على حياتها، فكنت أقول لها عند زيارتها في شهورها الأخيرة "لسه مكملة معانا شوية!" فيكون ردها سريع وهادئ، قائلة "الحمد لله على كل شئ أنا مستعدة للقائه في أي وقت"، فها هو ربنا جلّ شأنه يُراضيها فيكتب لها حُسن الخاتمة فتلقاه وهى صائمة في اليوم السادس عشر من شهر رمضان الفضيل، ولم تفطر يوما حتى يوم وفاتها.
أما عن كفاح أمى – رحمها الله - فما أعظمه وما أنبله!، فهى التي تزوجت في سن مبكر، وبدأت حياتها العملية ورحلة كفاحها مع زوجها - أبي رحمه الله - كتفا بكتف، ويدا بيد، تعمل معه في الحقل، زراعة ورعاية وحصادا وبيعا، وظلت هكذا بعد وفاة أبى منذ 23 عاما.
ولا أنسى – يا سادة - وأنا أتحدث عن كفاح أمى – رحمها الله – مشهد حملها لنا ونحن صغار، وعندما كنا أطفالا أنا وأخى الأصغر، حيث كانت تحمل أحدنا على ذراعيها والآخر تمسك بيده، وعلى رأسها حمل ثقيل ساعية على رزقها تمضى في كفاحا يوم تلو الآخر دون كلل أو ملل لا تنشد إلا الستر والعافية ورضا الله.
ووسط هذه الرحلة، كان تحرص على رسم البسمة على الوجوه، ونشر الرضا بين محبيها، ومقابلة الناس والأطفال بجبر خاطر، فلم يخلو جيبها من ثمرات بلح أو حلوى أو أموال معدنية توزعها على أطفال وهى جالسة أمام منزلها تُسلم على هذا، وتطبطب على ذاك.
وكل ذلك الرضا - يا سادة - وهى الأم الصابرة المحتسبة، فقد مات زوجها – أبى رحمه الله - وترك لها من الأبناء ثمانية، فواصلت مسيرة الكفاح وحدها، ليتزوج الجميع في حياتها، وهى فى خضم هذه الرحلة تبتلى بوفاة "ولدين لها وزوجة ابنها وحفيدها" لكنها تقابل كل هذا الابتلاء بالرضا والصبر والاحتساب.
إنها أمى - يا سادة - التي لم تدخل مدارس ولا جامعات لكنها ملكت عقلا حكيما، وسيرة طيبة، ورحلة كفاح يشهد بها القاصى والدانى، ورجاحة رأى تعلمت منها الكثير فحال حيرتى فى أمر أرجع إليها، وكأنها مرجعا لي في الحياة.
إنها أمى من أكرمتنا وأعزتنا.. رحمك الله يا أمى وأنار قبرك أنت وأبى وشقيقى وزوجة أخى وابن أخى ورزقكم الجنة ونعيمها ..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة