يوم السبت الماضي شاهدت عرض مسرحية " سيدتي أنا" على خشبة المسرح القومي بالأزبكية وعندما تأتي سيرة المسرح القومي فعلينا جميعا أن نقف اجلالا واحتراما وتقديرا واعتزازا بهذا المسرح الذي تأسس عام 1869 كأقدم مسارح الشرق...وقلعة الثقافة الفنية والوطنية التي تحولت الى مصدر للإشعاع الفني والفكري لباقي دول المنطقة
هذا المسرح قدم لأول مرة عام 1885 عروض فرقة أبو خليل القباني السوري بالقاهرة، كما قدمت فرقة إسكندر فرح وبطلها سلامة حجازي أشهر أعمالها من عام 1891 إلى 1905. وكان عام 1905 هو أول موسم لفرقة الشيخ سلامة حجازي نفسه.
هنا كانت البداية لبزوغ شمس الفنون والمسرح الذي تحول الى منصة مقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي والمطالبة بخروجه من مصر ، فنشأ المسرح الوطني في بداية العشرينات ثم الفرقة القومية المصرية بقيادة خليل مطران عام 35 والتي أزعجت سلطات الاحتلال بعروضها الفنية حتى تم حلها في عام 1942.
ومع ثورة يوليو 52 اصبح اسمه «المسرح القومي»، وتأسست به فرقتان مسرحيتان هما «الفرقة القومية المصرية»، و«فرقة المسرح المصري الحديث».. في وقت شهد فيه المسرح رواجا غير مسبوق بفضل كوكبة من الكتاب المسرحيين والمبدعين الذين دشنوا مرحلة جادة وجديدة في تاريخ المسرح المصري أبدعها زخم الخمسينات والحلم الثوري، وكان من بينهم: يوسف إدريس ، ونعمان عاشور ، وسعد الدين وهبة ، وألفريد فرج ، ولطفي الخولي ، ومن المخرجين عبد الرحيم الزرقاني ، وسعد أردش ، ونبيل الألفي ، وكرم مطاوع، وتألق عمالقة تمثيل المسرح على خشبته وفي مقدمتهم سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب ، وعبد الله غيث ، وحمدي غيث ، وشفيق نور الدين ، وحمدي أحمد .
لم تتوقف مسيرة الفن على خشبة القومي وعقب تجديده وتطويره وافتتاحه في أواخر الثمانينات شهد عروض رائعة واقبالا جماهيريا كبيرا عبر مشاركة كبار الفنانين في المسرحيات التي قدمها المسرح القومي مثل مسرحية «أهلا يا بكوات» بطولة حسين فهمي وعزت العلايلي ، ومسرحية «الملك لير» بطولة الفنان يحيى الفخراني التي عرضها المسرح في العام الماضي.
هذا العام يواصل المسرح القومي بقيادة فنية جديدة لمديره الصديق العزيز – ابن دفعتي في كلية الاعلام- الدكتور أيمن الشيوي عروضه القوية الرائعة وأولها عرض " سيدتي أنا" المستوحى من مسرحية الكاتب الايرلندي العالمي الشهير برنارد شو " بعنوان " بيجماليون"
وربما لا تكون مصادفة أن تقدم " سيدتي أنا" في مناسبة مرور 110 عام على أول لمسرحية برنارد شو في لندن عام 1913 وكان قد كتبها قبل العرض بعام واحد فقط. وأثارت جدلا كبير لدى الأوساط الفنية والسياسية والاجتماعية والطبقة الحاكمة بسبب انتقاده للتمييز الطبقي في المجتمع رغم أن القصة مقتبسة من أسطورة يونانية لنحات يوناني قديم اسمه بيجماليون أحب تمثاله وبث فيه من روحه وتزوجه قبل موته
ومسرحية برنارد شو بسبب نجاحها الواسع وقضاياها الاجتماعية والفلسفية المتشابكة والمغرية، فقد استلهمتها أعمال فنية كثيرة في مختلف دول العالم وخاصة الفيلم الأميركي " سيدتي الجميلة “عام 64 بطولة أودري هيبورن وريكس هاريسون، وإخراج جورج كوكور، وحاز على جائزة الأوسكار أفضل فيلم،
وكتب الأديب والمفكر الراحل توفيق الحكيم مسرحيته بنفس الاسم " بيجماليون" عام 42 و تم عرضها على المسرح القومي لأول مرة عام 64 قبل 5 سنوات من العرض الشهير " سيدتي الجميلة" للراحلين فؤاد المهندس وشويكار والتي عرضت عام 1969لتعرف طريقها بعد ذلك إلى خشبة المسرح المصري في أكثر من عمل أشهرهم "سيدتي الجميلة" للراحلين فؤاد المهندس وشويكار، ومؤخرًا مسرحية تحمل الاسم نفسه للنجم أحمد السقا والفنانة ريم مصطفى.
وفي السينما المصرية قدمت الفنانة الراحلة سعاد حسني عام 79 فيلم " المتوحشة" مع الفنان الراحل محمود عبد العزيز وتأليف وسيناريو وحوار صلاح جاهين وإبراهيم الموجي بتصرف عن مسرحية برنارد شو أيضا
أما العرض الحالي لمسرحية " سيدتي أنا" على المسرح القومي ففي رأيي هو التمصير الجديد المبهر والمبدع للنص الأصلي لمسرحية برنارد شو على الرغم من مرور هذه السنوات الطويلة، لكن الرؤية الفنية لمخرج العرض والمواهب المسرحية الشابة والأداء الفني الراقي لأبطال المسرحية من الفنان نضال الشافعي والنجمة داليا البحيري والدكتور فريد النقراشي -فاكهة العرض- والفنان محمد دسوقي أضفت الحيوية والرشاقة الفنية للعرض في اطار الاستعراضات الموسيقية والغنائية التي تناسب الذوق المصري.
وفي الحقيقة تخوفت في البداية من وضع العرض في مقارنة مع المسرحية الشهيرة لأستاذ الكوميديا فؤاد المهندس والفنانة شويكار لكن ومنذ البداية وجدت ان هناك اختلاف كبير ولا وجه للمقارنة بين العرضين، فالعرض الحالي التزم بالنص الأصلي بالإبداع المصري الحديث وجاء كعرض يليق بهيبة وجلال وقيمة المسرح القومي وفي رايي أن العرض الحالي حقق جماهيرية واقبالا كبيرا في أول أسبوعين بما يعني أن المقارنة مع العروض السابقة لم تجد طريقها الى عقل الجمهور الذي مازال حريصا على مشاهدة العرض الذي يضيف عناصر ابهار حديثة من الجرافيك التي تقدم لأول مرة على المسرح القومي .
نجاح العرض وراءه " جيش فني رائع" على رأسه مخرج العرض الفنان محسن رزق والشاعر عادل سلامة، والموسيقار محمود طلعت، والديكور حمدي عطية، والجرافيك جون بهاء، ومصمم الاستعراضات مصطفى حجاج،
ثم نأتي الى النجوم داليا البحيري التي تقدم ثاني تجاربها المسرحية ولكنها المرة الأولى التي تقف فيها على خشبة المسرح القومي وتجسد شخصية "إليزا دوليتل" بائعة الورد الفقيرة والمتشردة والتي تحولت الى الشخصية الارستقراطية بعد مقابلة الدكتور أدم وهي شخصية صعبة للغاية لكن ابداع داليا واصراراها على تقديم الاستعراضات والغناء كشف عن جانب فني جديد لديها وفتح أفاق المسرح في مشوارها الفني.
نضال الشافعي الموهوب- يجسد شخصية الدكتور آدم هنري- تفوق على نفسه على خشبة المسرح القومي في الأداء الراقي والاستعراض والغناء أيضا وهذا الفنان ولد نجما كبيرا لكن بطولته للعرض أضافت اليه الكثير من القيمة الفنية فرد الفعل على المسرح جاء مباشرا ليؤكد نجومية نضال ليس في الدراما والسينما فقط وانما على خشبة المسرح أيضا كنجم كوميدي عصري.
أما الدكتور فريد النقراشي – دوليتل – فهو فاكهة العرض بأداءه الكوميدي والتراجيدي الراقي ودخل في مباراة فنية راقية على خشبة المسرح مع أبطال العرض وسط استمتاع الجمهور وضحكاته وتصفيقه المتواصل.
باقي نجوم العرض من المواهب الشابة فهي تستحق الإشادة الكبيرة والاهتمام الواجب فمصر مليئة بالمواهب الفنية التي لا تنضب . فكل التحية للنجوم محمد دسوقي، أمينة سالم، ولبنى عبد العزيز وعبد الباري سعد وخالد إبراهيم ونشوى حسن والموهوبين احمد علاء بلبل وفادي رافت ومحمد سلامة واحمد بلة وريموندا نادر وهمسة علي ويسرا يسري ودينا سالم
العرض يقدم صورة مشرقة ومشرفة تليق بتاريخ وعراقة المسرح القومي، ويؤكد على أن الفن الهادف والعروض المسرحية القيمة تجذب الجمهور، مما يساهم فى تنشيط الحركة المسرحية، وهو ما تشهده حاليًا كافة خشبات مسرح الدولة وخاصة المسرح القومي، مسرح مصر الحقيقي، الذي سبق أن صعد على خشبته كبار نجوم الفن المصري والعربي.
تحية الى الدكتور الفنان خالد جلال رئيس قطاع شئون الإنتاج الثقافي، والقائم بأعمال رئيس البيت.والتحية الى الصديق العزيز الدكتور أيمن الشيوي مدير المسرح القومي الذي أتوقع أن يشهد المسرح وفرقته نجاحا كبيرا خلال الفترة المقبلة ليعيد للقومي عصر الأمجاد الفنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة