ما صار إليه السودان، أو صُيِّر قهرًا، أبعد ما يكون عن طبيعته. تُشبه البلاد ناسَها؛ كأنهما من طينةٍ واحدة. البيئات الوعرة تُنتج بشرًا قُساةً خَشِنى الطباع، والخرائط المُنبسطة تُحسن تربية الطيِّبين المُنسابين كالنهر. عُمقنا الجنوبى مُتَّسعٌ كراحة اليد، وأهله بساطٌ من السَّكِينة كحقل قمح، ومن فرط التشابه بينهما كأن الأرض بشرٌ ثابتون، والبشر طبوغرافيا مُتحرّكة. وإذا كان للمُدن أن تتأنسن وتستعير قلوب الخلق؛ لتتصادق وتُحبّ كما يُحبّون، فستكون الخرطوم أقرب أصدقاء القاهرة وأحبابها، والسكَّان على جانبى الحدود أصفاهم مودَّةً لبعضهم. لا مُبالغة لو قلنا إن مصر أكثر المُتألّمين لما يُعانيه عُمقنا الاستراتيجى، وأخلص الساعين إلى أن يستعيد التراب فيه استواءه تحت الأقدام، ويصل المُتخبّطون فى سيرهم لمساحةٍ تعصمهم الفوضى ومخاطر السقوط.
بتلك الصفة ينعكس مسار النيل سياسيًّا ودبلوماسيًّا؛ ليفيض من حاضرة المُعز جنوبًا إلى «ملتقى النيلين» بنوايا مُخلصة ومساعٍ صادقة، وتُقارب الدولة المصرية ملفَّ الصراع المُحتدم على قاعدةٍ من التزامات الأُخوَّة والإنسانية والمصالح المشتركة، وتأتى «قمّة دول الجوار» التى تحتضنها أم الدنيا وشقيقة العرب الكبرى اليوم، بانفتاحٍ صافٍ على الجميع، وقراءة موضوعية للظرف، واستكشافٍ أمين لمسارات التهدئة المُمكنة، انحيازًا للسودان وأهله أوَّلاً؛ ثمّ بحثًا عن مداخل عقلانية لتصفير الاشتباك الأهلى، الذى يُهدِّد بوضع البلد فوق برميل بارود تُحوّطه النار من كل جانبٍ، وبإغراء لاعبين إقليميين ودوليين أن يستثمروا فائض التوتر، والتلويح بفتح جبهات مُزعجة للقارة شمالاً وفى الشرق والوسط وعلى ضفّة البحر الأحمر، وربما فى نطاقات تتعدَّى الحدود الطبيعية والتجاور المُباشر.
بالتئام مؤتمر القاهرة، اليوم الخميس؛ تكون الأزمة أكملت ثلاثة أشهر، منذ اندلاعها منتصف إبريل. تبادل الجميع اتهاماتٍ على كلِّ لون؛ والمُحصِّلة أن بلدًا كبيرًا بات يتدلّى عن المُنحدَر، وتأكّد من جديد أن أعراف القوّة تمنح الأقوياء حق بداية الحرب؛ إنما لا أحد بمقدوره أن يُقرّر موعد انتهائها. الحروب سياسة خشنة، وإذا ثبتت ميادينها عند درجة الانصهار؛ فلن يكون سهلاً إدخالها ثلّاجة التوافق. هكذا يفرض الواقع أن تُوضع السياسة على نارٍ عالية؛ ليُطهى الحلُّ الناعم بمقادير التعقُّد الدموى ووصفته؛ كى تتعادل المكوّنات وتصفو النكهة. خبرات السودان مع تصفير صراعاته ليست جيدة: انقلاب إبراهيم عبود 1958، ثم جعفر نميرى 1969، وعمر البشير 1989، وبينها محاولات إسماعيل كبيدة وهاشم العطا وحسن حسين ومحمد نور سعد؛ وحدها تجربة «سوار الذهب» الرومانسية أفضت لمسارٍ أقل جنونًا، رغم أن الإسلاميين لم يُفوّتوا الفرصة لإجهاض الديمقراطية التوافقية بين العسكريين وأهل السياسة.
أزمة الترتيبات التالية لإطاحة نظام الإنقاذ «المؤتمر الوطنى والحركة الإسلامية» أنها حاولت إقصاء المُؤسَّسة العسكرية، فى بلدٍ أنهكه الإخوان ثلاثين سنة، وفكَّكوه إلى إثنيّات وجهويَّات مُتحاربة، ومكّنوا عشرات الميليشيات وتفريعاتها من لحمه ومفاصله؛ فلم يعد مُمكنًا أن يتعافى بعيدًا من قوَّته الصُّلبة. ربما بات واضحًا الآن أن السودان لن يصلب عوده إلّا على ساقين: المدنيين والعسكريين؛ شريطة ألّا تُدار علاقتهما بمنطق المُكاسرة الصفرية وتحيُّن الانقضاض والإطاحة. فعلتها قوى السياسة فأوغرت صدر الجيش، وردّ الأخير على ما رآه مُؤامرةً بحقِّه فكان صعود «الدعم السريع». إمَّا أن يتوافق أصحاب المصلحة فى تركيز بلد مُستقرٍّ ومُنضبطٍ؛ أو ستتقدَّم الميليشيات ببدائل ضد الوطن والمواطنين جميعًا.
بات خيار الحسم العسكرى مُستبعَدًا، وحتى الحلول السياسية تكتنفها تعقيداتٌ تخصُّ شكل التسوية، ووضعية أطراف النزاع فيها، وعلاقتهم ببعضهم وبالقوى المدنية. الموقف الشعبى أقرب للقوات المُسلَّحة ضد «الدعم السريع»، ولم يعد منطقيًّا الحديث عن استعادة مسار الدمج وتوحيد اللافتة، بعدما أبدت الأخيرة تمرُّدًا جذريًّا على سُلطة الدولة ومؤسَّساتها، وتورَّطت فى لعبة الحرب الأهلية بتحالفات «فوق وطنية» ترافقها الشبهات.. يحتاج السودان لصيانة الجسم العسكرى المُنظَّم بوصفه ضمانة الاستقرار والأمن؛ لكن المعادلة لا تستقيم فى وجود «حميدتى»؛ ولا أفق واضحًا لخروجه من الصورة بخشونةٍ أو بنعومة. تلك الحالة تُرشِّح الأزمة لتصعيدٍ أكبر، وانغلاق للمسارات الكفيلة باستعادة الهدوء، ولا بديل عن تحالفٍ واسع من الشعب وقواه السياسية مع القيادة؛ لتعزيز موقف الجيش، وتعرية الميليشيات، لكن مع التحضُّر للفاتورة المُحتمَلة: عبر صراعٍ داخلى طويل المدى بطول البلد، أو إذا عاد «الجنجويد» للتمركز فى حاضنتهم الأولى دارفور، أو تموضعوا ضمن نطاقات إقليمية تُحصّنها روابط عائلية أو مصالح مالية مع أجنحة فى تشاد وأفريقيا الوسطى وغيرهما. فى كلِّ الأحوال سيطول أمد المواجهة؛ ومن دون إجماعٍ شعبى قد لا تلوح فى الأُفق بوادر للتهدئة.
قُرابة عُشر السكَّان تضرَّروا بشكل مُباشر. نحو 3 ملايين نزحوا داخليًّا وأزيد من 600 ألف عبروا لدولٍ مجاورة، و2800 قتيل وعشرات آلاف المُصابين، فضلاً عن 25 مليونًا يُعانون يحتاجون مساعدات عاجلة. رغم فداحة الأرقام؛ فإن ارتدادات المحنة لا تقع على السودانيين وحدهم: بين 8 و10 ملايين لاجئ باتوا مُهدَّدين بشكلٍ صارخ، وانقطعت أسباب رزقهم بعدما كانوا يعتمدون على أنشطة تجارية وخدمية، وحِرَف وأعمال يومية توقَّفت بتجمُّد الحياة فى عروق البلد. كان السودان محطَّةً مُؤقَّتة لطوابير يُنظّمون صفوفهم ويجمعون من مداخيلهم القليلة تكلفة تذكرة العبور شمالاً، لمصر وليبيا وتونس ثمّ أوروبا، الآن لم يعد لديهم عمل ولا دخل أو أمل، ومن دون دولارات الهجرة فقد ينتقلون للجوار بعَوَزهم، أو تغريهم الميليشيات فيُصبحون «مُرتزقة»؛ وحدث بالفعل مع بعضهم وآخرين من الوافدين.. هكذا تُلقى الحرب ظلالاً رمادية ثقيلة داخليًّا، وعلى توازنات هشَّة بالمجتمعات المُحيطة، وتُغذِّى سوق الميليشيات المُنفلتة فى ليبيا ومالى وغيرهما، وتمتد آثارها إلى الساحل والصحراء وربما لنطاقاتٍ أعمق بالوسط والغرب. هكذا تتجاوز مصالح الجيران حدود البلدان السبعة اللصيقة؛ لتقع فى صُلب الأولويات لأوغندا والكونغو والصومال وجيبوتى ونيجيريا وغيرها.
أهمية مُؤتمر مصر، أنه يُؤسِّس لسياقٍ إقليمى قادرٍ على تطويق كُرة اللهب. أغلب جيران السودان لا أطماع لهم فيه، وتجمعهم روابط سياسية واقتصادية واجتماعية وطيدة بالدولة والمجتمع، كما أنهم أصحاب مصلحة فى تخفيض منسوب التوتر، وما يتفرَّع عنه من ترحيل الصراع أو إعادة إنتاج أشكال منه فى بيئاتهم. بمنطق التاريخ والجغرافيا ودَفع الخطر، تكتسب مواقف دول الجوار وجاهةَ الاشتباك البرىء والمُتجرِّد مع الحالة، ولا تنقصها عوامل الفاعليّة والتأثير فى مُجرياتها، وكل المطلوب أن تتكامل جهودها الإطفائية؛ لغرض تطويق المساحة المُلتهبة، ثمَّ التحرُّك الوئيد بما لها من رصيدٍ ومشروعية؛ سعيًا لتبريد الجبهة وترميم شقوقها. مهما أخلص البعيدون فى استكشاف الحلول؛ فإن الأقربين أولى بالمعروف وأقدرُ عليه، لا سيّما أن مواقف بعض الأطراف لا تتعالى على إثارة الغبار وعلامات الاستفهام بين وقت وآخر.
أغلب قائمة المُتّصلين بالنزاع لا تخلو من مُلاحظات على بعض السلوكيات. هناك تساؤلات عالقة تخصُّ الاستثمار والمصالح التجارية وإسناد طرف ضد آخر؛ لكن مصر كانت حريصة منذ البداية على اعتماد استراتيجية بيضاء مع الجميع: لم تُسجّل انحيازًا لأحد، ولا تتربّح من منافع الانفلات واقتصاد «تحت الطاولة»، ولا روابط تجمعها بأيّة ميليشيات أو كيانات خارج منظومة الدولة، كما لا تستثمر فى الفرز العرقى والأنشطة عابرة الحدود. فتحت أبوابها للنازحين، وساعدت رعايا العالم، وأجلت مواطنيها بهدوءٍ ومن دون أزمات، وحتى عندما تجاوزت «ميليشيات حميدتى» بالتحفُّظ على جنودٍ مصريِّين كانوا يُشاركون فى تدريبات رسميّة مُبرمجة، أدارت الموقف بأعلى درجات ضبط النفس، ولم تُوظِّف فائض القوة فى إبراز رفضها للمُمارسات العصابية غير القانونية. إجمالاً؛ رغم أن القاهرة أكثر المُتضرِّرين، وتتكبَّد أعباء مالية وسياسية جرّاء الأزمة؛ فإنها ظلَّت فى طليعة الهادئين ودعاة التهدئة، وأسَّست مُقاربتها على حصانة الداخل السودانى، وأن تنحصر جهود الخارج فى تمكين المؤسَّسات، ومُعاونة الفُرقاء على إنتاج مُدوّنة وطنية خالصة، تنبع من احتياج البلد، وتراعى توازنات قواه ومصالحه، وتنبنى على أساس صُلبٍ يضمن لها الإقناع والاستدامة، ولملمة الفوضى دون هدم البيت والرقص فوق أنقاضه.
كان دخول عصر الميليشيات قبل عدّة عقود تعبيرًا عن ردّة ثقافية وسياسية. استثمر «البشير والإخوان» فى تفكيك القاعدة الاجتماعية وحبسها فى انتماءات بدائية. هكذا صيغت صراعات الحكم على وجهٍ إثنى وعقائدى؛ فكانت أزمة الجنوب التى أفضت للانفصال، وتوحُّش «الجنجويد» الدارفوريين الذى أرسى ركائز «الدعم السريع» بصيغتها شبه النظامية منذ 2013، وتمرح الآن نحو 8 حركات مُسلَّحة تتمترس خلف سياجات عرقية ونزعات انفصالية أو فوضوية. لسنا إزاء صيغة ناضجة أو حتى تترك هامشًا ولو ضئيلاً لهيكلة الدولة، كما أن أى شكل للتصالح معها وتطبيع بقائها خارج القانون لن يُفضى إلّا لطَمر الجمر تحت الرماد، وتأجيل الصدام والمُغالبة ونعرات التفكيك بدلاً من تذويبها. داء السودان عضالٌ ويستفحل فى الزمن، ومهما تطلّبت التحدِّيات اللجوء للحسم وفرض الدستور وهيبته بالقوّة؛ يظل العلاج الناجع فى الثقافة والاجتماع وإعادة تشبيك الهوية المُنفرطة، وتخليصها من كلّ ما لحقها من شوائب، وما انطبع على روحها من آثار الاستهداف والضربات الغشوم المُدبَّرة.
المخلصون من الوطنيين أحوج ما يكونون لإعادة رصّ الصفوف، وترميم قنوات الحوار على مُرتكزٍ من التكافؤ، وتجفيف مستنقعات الخوف وسوء الظن التى عبّأها نظام الإخوان. والحاجة مُلحّة إلى الاحتماء بالشركاء خالصى النوايا، ومن اختبروا محنة الإسلاميين وعبروها. مصر قادرة على لعب دور مُهمّ فى ذلك، وإجلالها لقَدر السودان قديمٌ ويسبق كل الرواسب. منذ ارتضت الإرادة الشعبية واحترمت رغبة الاستقلال فى 1956، وتحمّل «عبدالناصر» مسؤولية إنفاذ إرادة السودانيين أمام ظهير شعبى كان يُحب أن يظل وادى النيل جسدًا واحدًا، وفى كل المحطات لم ترتدّ القاهرة عن موقفها، حتى عندما تمادى «البشير» فى سفالاته فهدَّد وتآمر وحاول اغتيال مبارك وتعهّد الإخوان بالتدريب والتسليح والملاذات الآمنة. تلك الخلفية تُؤكّد صفاء الموقف المصرى، وهموم بقيّة الجيران تجعل التهدئة أكبر آمالهم، ما يُعزّز أهمية القمّة المُنعقدة على نيل القاهرة لتصفية نيل الخرطوم، باحترامٍ لحصرية الحقّ السودانى فى شؤونه، وانفتاح على المسارات الأفريقية والدولية الوازنة؛ وصولاً لرؤية إقليمية مُشتركة، تُراعى المصالح الجامعة وتحقن الدماء وتصون بقاء السودان.
كان مُزعجًا أن تعلن بعض قبائل دارفور وكردفان والكبابيش مُساندة «الدعم السريع»، بينما يصطف ملايين السودانيين خلف جيشهم. هناك من يرعى عهد البشير ويتمسَّك بأدواته المُخلصة للتفرقة وضرب المجتمع بمكوّناته؛ بدلاً من أن يكون التنوُّع عنصر تميُّز وإثراء. ادّعاء أن فلول الإخوان يدعمون الجيش من الكتاب نفسه. والمنطق أن الدستور والقانون ومقتضيات السلم الأهلى وسيادة الدولة هى ما تحكم الفضاء العام وتتقدَّم كلّ الاعتبارات، وتلك القيم ملك المجتمع وتنوب عنه المؤسَّسات فى رعايتها. الميليشيات شرخٌ فى جدار التنظيم ومأسسة القوّة، ومن ثمَّ لا تصلحُ مرجعًا أو ضامنًا للدولة مهما ادّعت.
خلاص السودان فى أن يظل بلدًا لا «قفص مصارعة» يخرج منه الفائز على جثّة غريمه. يتحقَّق ذلك بوقفٍ شامل ومُستدامٍ لإطلاق النار، وحركةٍ جادّة للإعمار والتنمية، وغلِّ أيدى تُجّار الدم وداعمى فوائض القوّة غير المشروعة، والأهم وضع المؤسَّسات الدولية والإغاثية أمام مسؤوليّاتها؛ وإلا فالبديل مزيد من التدافع نحو حربٍ أهليَّة واسعة النطاق، وحقبة سائلة سياسيًّا وأمنيًّا، وقطار طائش لن يتوقَّف قبل محطَّة «الدولة الفاشلة».. ستُطرح عناوين عديدة فى القاهرة، كما طُرحت وما تزال فى غيرها، ولا بديل عن صفاء المواقف الخارجية واضطلاع العالم بالتزاماته؛ لكن تظلّ الإجابة النهائية بالخرطوم، وفى إرادة الحياة لدى السودانيين، التى تعلو كلَّ صور الدراما السوداء، وتسمو على رغبات وأطماع ومصالح سماسرة الفوضى والموت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة