أخبر استديو مصر المطربة أسمهان بأن إنشاء منصات لخاتمة فيلمها «غرام وانتقام» أمام يوسف وهبى، سوف يستغرق عدة أسابيع، لذلك فهى حرة التصرف حتى 25 يوليو 1944، فقررت قضاء عطلة قصيرة فى رأس البر، وفى الطريق وقعت حادثة السير المشؤومة التى ماتت فيها يوم 14 يوليو، مثل هذا اليوم، 1944، وكان عمرها 32 عاما «مواليد 25 نوفمبر 1912».
يذكر الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «الغناء المصرى- أصوات وقضايا»: «فى الثامنة والنصف من صباح الجمعة 14 يوليو 1944، ومن أمام الفيلا التى تملكها وتقيم بها بشارع الهرم، استقلت أسمهان وبرفقتها صديقتها وسكرتيرتها مارى قلادة سيارتها الخاصة، وهى من طراز الكود، تحمل رقم 7654، ويقودها السائق فضل محمد نصر، الذى يعمل من فترة طويلة فى استديو مصر.
قبل الساعة الحادية عشرة بدقائق، وعند قرية سرنفاش مركز طلخا، التابعة لمحافظة الغربية وقتئذ، وتابعة الآن لمحافظة الدقهلية، اصطدمت السيارة بحفرة كبيرة نتجت عن أعمال حفر تمت بعرض الطريق، وذلك لإمرار ماسورة تحمل الماء من ترعة الساحل إلى أرض أحد كبار الوزراء المطلة على الطريق، كان الاصطدام من القوة بدرجة أطاحت بالسيارة إلى أعماق الترعة، وبينما تمكن السائق «فضل» من القفز من باب السيارة الأمامى وقبل أن تهوى إلى الماء، لقيت أسمهان ومارى قلادة مصرعهما غرقا، لفشلهما فى فتح أبواب السيارة المغلقة عليهما.
كان الكاتب الصحفى محمد التابعى قريبا من أسمهان، وارتبط بها لفترة خطوبة عام 1940، ثم افترقا قبل رحيلها بثلاث سنوات تقريبا، ويذكر فى كتابه «أسمهان تروى قصتها»، أنه كان فى رأس البر، ولما علم بقدومها قرر العودة حتى لا يراها.
يتذكر «التابعى»: «حل يوم الجمعة 14 يوليو 1944، وكان ينزل ضيفا يومئذ فى عشتى الصديقين أحمد الصاوى محمد، وتوفيق الحكيم، وبعد تناول الغداء، غادرنا العشة فى طريقنا إلى دمياط لنستقل منها القطار إلى القاهرة، وتوقف القطار بمحطة المنصورة، وكان صديقنا الصاوى جالسا وأمامه طبق عجة محشوة بالمربى، وهو طبق فرنسى ثقيل، ولكنه من مختارات صديقنا فى الطعام الخفيف، هذا بينما كان توفيق الحكيم يرتشف من قدح شاى، ويحدثنى فى موضوع مقاله القادم عن «حماره» أو «حمار الحكيم».
يذكر «التابعى»: «كنا هكذا، عندما دخل علينا خادم عربة البولمان يروى لنا الحادثة أو الفاجعة، التى راحت ضحيتها أسمهان منذ ساعات قليلة على مقربة من مدينة المنصورة، أى على أوائل الطريق بين طلخا ودمياط، وبهتنا جميعا، ووجمنا ساكتين، والذى لم يذكره أحد، بل ولا يعرفه أحد هو أن اليوم المذكور 14 يوليو هو يوم عيد ميلاد ابنتها الوحيدة كاميليا».
يذكر نبيل حنفى محمود: بينما كانت التحقيقات الأولية وردود الفعل الأولى للحادث تتوالى فيما تبقى من نهار الجمعة 14 يوليو 1944، كان الموسيقار مدحت عاصم يستحث العمال بالعمل معهم طوال الليل لحفر قبر لأسمهان فى قطعة أرض بمدافن الإمام الشافعى ابتاعها شقيقها فريد بعد الحادث.
فى الحادية عشرة من صباح السبت 15 يوليو، توقف المرور تماما بوسط القاهرة، عندما تحرك موكب جنازة أسمهان فى شارع 26 يوليو، متوجها إلى مسجد أبوالعلا للصلاة عليها، وغص موكب الجنازة الشعبية بآلاف المشيعين، يتقدمهم شقيقها فريد والموسيقار محمد عبدالوهاب، وجمع من الموسيقيين لم يتخلف عنه إلا من كان خارج البلاد.
يؤكد حنفى محمود: كان الحزن على أسمهان ومازال كبيرا، إذ ليس فى كل يوم ترحل عنا أميرة كهذه، ويضيف: «انطلقت الشائعات والأقاويل فى المجالس وعلى صفحات الصحف، ودارت كلها حول سؤال واحد هو: من قتل أسمهان؟ وينقل حنفى محمود عن الكاتب سعيد الجزائرى فى كتابه «أسمهان ضحية الاستخبارات»، أنه أحصى 6 من الأفراد والجهات تحركهم دوافع للتخلص من أسمهان وهم، فؤاد الأطرش، القصر الملكى، الملكة نازلى، أم كلثوم، أحمد سالم، المخابرات البريطانية، غير أنه لم توجد وثائق دامغة تؤكد الاتهام بحق أحد من هذه القائمة، يضيف حنفى محمود: «السائق فضل محمد نصر أدانته محكمة طلخا فى حكمها الصادر فى أوائل أغسطس 1944 بحبسه شهرين مع النفاذ، وانطوى سر وفاة أسمهان بعد وفاة السائق الذى أطبق فمه على ما يعرف عن الحادث».
فقد الغناء العربى بموت أسمهان صوتا يصفه الناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى فى كتابه «الغناء المصرى»: «كانت أسمهان صاحبة أجمل صوت نسائى ظهر فى عصرنا بعد صوت أم كلثوم، كان مزيجا من صوت المرأة وصوت الكمان وصوت الناى وصوت الأوبرا وصوت الحمامة المطوقة فى تركيب عجيب فاتن، يكاد يجعل منه صوتا غير بشرى».