مؤتمر القاهرة يتجاوز مرحلة تنافس المبادرات والمصالح الخفية إلى البحث الجاد عن حلول واقعية ناضجة وتمكين المجتمع السودانى والفئات المهمشة ضمن الحوار المستقبلى بداية الإنقاذ الحقيقى والمستدام للدولة
افتتحت الأزمة السودانية شهرها الرابع، ولا تزال نُذُر الخطرِ تتقدمُ فرصَ التهدئة وآمال رجوع البلد لحالته الطبيعية، طرفا النزاع عاجزان عن الحسم، وعلى حدود الميدان تصطف طوابير المشجعين: بعضهم يُهلّلون علنًا، وأكثريتهم يُخبّئون نواياهم وراء ملامح مرتاحة وأداء وقور، وأخطرهم يُعلّقون رهانات سوداء على المواجهة، وينتظرون أن يستردّوا ما دفعوه مشمولاً بالمكاسب أو مواطئ أقدام فى المشهد الجديد، وحدهم السودانيون يُسدّدون كُلفة كل المغامرات وانسداد الأفق وتعطيل الحلول، ووحدها دول الجوار يمكن أن تكون وسيطًا نزيهًا بأجندة بيضاء صافية؛ لأنها تتقاسم مع الأشقاء أعباء المحنة، وتظل عُرضةً لأن تكبش الجمر أو يُلقى عمدًا فى حجرها، ما لم تُقطع الطريق على المستثمرين فى إذكاء النار، أو يتوصّل المعنيّون بالامتحان الصعب إلى وصفةٍ جادة، أمينة وعاقلة؛ لتبريد «حلَّة الضغط» المكتومة قبل أن يقع الانفجار!
جرّب اللاعبون الإقليميون والدوليون كل الاحتمالات، ولم يخرجوا إلا بإجراءات لتقطيع الوقت دون فضّ الاشتباك؛ فظلّت العربة فى اندفاعتها على المنحدر، تدهس العابرين وتقترب من محطّة الارتطام المُدوِّى. يُمكن الجَزم الآن بإخفاق محاولات الوساطة وانتشال المُختصمين تحت غبار المعارك من الهواء المُلوّث إلى فضاء نقىّ وطاولة حوار مُرتّبة. خلُصت نوايا بعض الوسطاء، ولم يخل المشهد من صائدين فى الماء العكر؛ إلا أن مُحصّلة الحالين ظلَّت واحدة. غابت جهود الأمم المتحدة، وتعطّلت قوافل الاتحاد الأفريقى و«إيجاد»، ولم تصمد هُدنة واحدة من «مسار جدّة» لموعدها دون خروقات. وسط ظرف فوّار بالعُقد والتحدِّيات، كان دخول دول الطَّوق على الخطّ ضرورة لا بديل عنها، واحتياجًا لها وللسودان، وليس رفاهيةً أو إبراء ذمَّة، واضطلعت مصر بتعبيد المسار عبر قمّة دول الجوار، التى احتضنتها الخميس الماضى.
منذ اندلاع الأزمة، بدا أن النيّة تتّجه لإرخاء حَبلها إلى المدى الأقصى. سارعت دول كبرى ومُنظّمات أُمميّة لإجلاء بعثاتها دون سيناريو مُتزامن للتهدئة وكبح الانفلات، وذهبت كثير من التعليقات إلى التبشير باحتدامٍ طويل. كانت المقدمات تُنذر بالاشتعال، وجذور التوتر أبعد من مشهد إبريل. ربما تعود البداية إلى الترتيبات التالية لسقوط البشير «ربيع 2019»، وما تبعه من استثمار مقصود فى تسميم الأجواء بين المكوّنين المدنى والعسكرى، ثم عجز «حمدوك» وحكومته المدعومة بأجندة قوى الحرية والتغيير وعلاقات مجلسها المركزى العابرة للحدود عن ترميم الصدوع، أو طمأنة المؤسَّسات التى تتابعت عليها إشارات العداء وترقُّب فُرص الإقصاء. تلا ذلك مَدٌّ وجَزر فى العلاقة وصولاً إلى محاولة انقلاب مُجهضة فى سبتمبر 2021، ثم خطوة رئيس مجلس السيادة فى الشهر التالى بحلّ الحكومة وتعديل المجلس وفرض الطوارئ وتعليق الوثيقة الدستورية، كان المُبرّر: تكالب القوى السياسية على السلطة ومشاكساتها وتأجيج الفوضى دون اعتبار لمُهدِّدات الأمن والاقتصاد. سبق ذلك تظاهرات واعتصام ما يُعرف بـ«قوى الميثاق الوطنى» طلبًا لإطاحة حمدوك ووقف تغوُّل الدائرة المُهيمنة على قرار «الحرية والتغيير».
قال فريقٌ إن المكوّن المدنى يُهدّد الانتقال الديمقراطى الذى يجب أن يكون هادئًا، احتوائيًّا، ولا يُقصى أحدًا، وردّ خصومهم بأن الرفض تُؤجّجه فلول النظام القديم ويُفصح عن نِيّة مُضمرة لاختطاف الدولة واحتكار الثورة. بين الموقفين ارتأى مجلس السيادة ورئيسه البرهان، أن اللعبة خرجت عن نطاق السياسة إلى مستوى الخشونة والتلويح بإثارة الشارع، أو إنفاذ منطق القوة وتوظيف فوائض العلاقة بالخارج. لا بِنْية دستورية مُستقرة، ولم يحن موعد الصناديق، والمؤسَّسات القائمة باتت طرفًا فى الصراع، وقتها اختار الجيش أن يضع نقطةً فى آخر العبارة؛ ليبدأ سطرًا جديدًا؛ ربما لم يكن الاختيار الأسلم، لكن غياب القنوات البديلة بين السياسيين ومع الشارع حفّزت هذا المسار، ثم فرضت التطوّرات العودة عنه باتفاق نوفمبر، القاضى بأن يُشكّل «حمدوك» حكومة تكنوقراط بمنسوب أقل من الاستقطاب والمناورة السياسية؛ لكنه فشل بعد عودة حُلفائه عن خيار التوافق، فلوّح بالاستقالة خلال ديسمبر واستقال فعليًّا فى يناير.
مضت الشهور ثقيلة حتى جاء «الاتفاق الإطارى» أواخر 2022، حاملاً جُملة ترتيبات كان أحدها، وسبب الأزمة الأخيرة، يخص دمج ميليشيات الدعم السريع ضمن القوى النظامية وأفرع الجيش. تُشير البنود إلى نزول المؤسَّسة العسكرية على توازنات قاسية أرادت استبعادها من أُطر السلطة الانتقالية، مع سلخٍ كامل عن السياسة والاقتصاد، وحديث عن هيكلة الشرطة والمخابرات. بعيدًا من إمكانية ذلك أو معقوليّته انطلاقًا من واقع البيئة السودانية؛ فإن توقيعه حمل قبولاً عسكريًّا لخيارات أملاها سياسيّون ضمن سياق غير طبيعى. فى هذا دليل على الانحياز للتوافق والانتقال الناعم، أو تناقض يفضح خديعة فُرضت على المشهد من خارجه. لاحقًا عندما طلبت السلطة الشرعية تنحية المبعوث الأُممى فولكر بيرتس، علّلت الأمر بأنه «مُنحاز ومُضلّل» مارس التدليس لصالح أحد الفصائل، بادعاء الإجماع على الاتفاق عكس الحقيقة. كانت الوثيقة غريبة فى منشأها ومراميها، ثم بانت فِخَاخها سريعًا مع لعبة توزيع أدوار واضحة بين حميدتى و»الحرية والتغيير».
وضعية ميليشيات الدعم السريع لم تكن منطقية قطّ. القوى غير النظامية التى نبتت بين الدم والنار فى أزمة دارفور، وتورَّطت فى مُمارسات ترقى إلى جرائم الحرب، كانت فى الأساس ظهيرًا عصابيًّا لنظام البشير، وكان ولاؤها محصورًا فى شخصه عندما كانت «الجنجويد» وبعدما منحها صفة شبه رسمية وألحقها بتبعية المخابرات منذ 2013؛ لكنها نقضت العهد معه وادّعت الانحياز للثورة؛ بحثًا عن دور فى المرحلة الجديدة. تكرّر ذلك فى 2021 عندما دعم «حميدتى» قرارات مجلس السيادة ثم عاد لانتقادها ووصفها بالانقلاب، وبدلاً عن موقعه الذى ظل مُتشكّكًا فى مشروعيته بين الألوية النظامية، شقّ طريقًا وأرسى تفاهمات مع قادة الحرية والتغيير. كان قائد الميليشيا يُناقض نفسه بالالتحاق بخدمة خصوم راديكاليين لمرجعيّته السلطوية القديمة؛ لكن سقطة الثوار أكبر بالتحالف مع سلاح مُنفلت بصحيفة سوابق سوداء مع البشير وضد المدنيين فى دارفور وغيرها. تلك الصيغة المُختلّة ما تزال قائمة حتى الآن!
ما أسقط الوساطات السابقة أنها تجاهلت التعقيدات، أو أدارت علاقتها بمنطق الوصاية، وربما سعى بعضها لتمرير مُعادلة مستقبلية تضمن مصالحه. سقطت كل المحاذير فى قمة دول الجوار بالقاهرة؛ إذ كانت اللافتة المصرية مُنحازةً منذ البداية للحياد الكامل، وتحصين الشأن السودانى من تدخُّلات الخارج، وعلى تلك الأرضية جاء الجيران بنفوسٍ صافية، أو فلسفة مُغايرة لمواقف سابقة. الملمح الأبرز فى حالة رئيس وزراء إثيوبيا، الذى تعرّض لانتقاد حاد من الخرطوم بعدما قال فى «إيجاد» إنها تُعانى فراغًا سياسيًّا ويجب فرض حظر جوّى عليها. فى القاهرة كان أقل انحيازًا وأكثر عقلانية، وبقيّة الحضور كذلك. جاءت كلمات القادة داعمةً لرؤية مصر على قاعدة التهدئة من دون شروط، وبتوازنٍ بين العسكرى والسياسى والإنسانى، أكّد البيان الختامى مُحدِّدات خطوة الدول اللصيقة عبر وضع خطّة عمل تنفيذية لوقف الاقتتال، وإرساء آلية وزارية للمتابعة، مع تأكيد مركزية الحل السياسى وتيسير المساعدات وجهود الإغاثة.
تركت الأزمة آثارًا فادحة على البيئة السودانية، ومقتضيات الأمن والبقاء. تضرَّر الموسم الزراعى وخطوط الإمداد، وتقطّعت سُبل العيش بنحو نصف السكان و3 ملايين اضطرّوا للنزوح داخليًّا أو عبر الحدود، تشقَّقت البِنية المؤسَّسية لدرجةٍ يصعب ترميمها دون نزيفٍ حاد فى الوقت والموارد، وزادت أعباء دول الجوار باللاجئين والمخاطر الأمنية: تشاد تحتضن 600 ألف زادوا بمقدرا الربع تقريبًا، ومئات الآلاف أُضيفوا لقرابة 5 ملايين فى مصر، وأرقام شبيهة فى إريتريا وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان. لم يعد الحل التزامًا لإنقاذ بلد شقيق فقط؛ إنما هدفًا عاجلاً لتحصين منطقة بكاملها من الانفلات والفوضى؛ إذ كل يوم تحت القصف يُهدّد بترحيل النزاع والسلاح والمقاتلين دخولاً وخروجًا، وانخراط مزيد من السماسرة البارعين فى استثمار مناخات التفسُّخ، والأخطر تعميق الخنادق وقطع طريق العودة من ساحة الحرب، أو جعلها باهظة التكلفة لحدٍّ لا يُطاق، أو لا يمكن بعدها الوصول الآمن والمستقر للتعافى والحياة الطبيعية.
خلّفت الشهور تركةً ثقيلة، ولم تقطع دول الحزام السودانى اتصالها بالمبادرات الإقليمية والدولية؛ رغم ما خالط بعضها من عوار. الظرف يقتضى الإخلاص لغاية النجاة وليس البحث عن أدوار، وأهم ما فى التحرُّك أنه يحفظ الثابت القارى بابتكار «حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية». بدخول الجيران على الخط بتلك القوة بعد 3 أشهر، لا يُدينون فقط المسارات السابقة ضمنيًّا؛ بل يُؤكّدون أن التماس الحل خارج النسيج الوطنى ومحيطه القريب محكوم بالفشل دائمًا، وأية مُقاربة عاقلة يجب ألّا تقفز على حقائق الجغرافيا وتوازناتها المباشرة، كما أن الجهود الوافدة يتعيّن أن تنضبط بمصالح المنطقة وتطلُّعات أهلها، ومن ثمّ لا بديل عن أن يكون المعنيّون طرفًا فى كل تسوية، ورقيبًا عليها؛ لا سيما أن بعض العناوين الإنسانية قد تُخفى تدخُّلات ليست فى صالح التهدئة. هنا ربما يُثار سؤال عن تنامى قوّة «الدعم السريع» خلال الحرب، وتطوُّر تسليحها ليشمل قطعًا متوسطة وثقيلة وصواريخ ومضادّات أرضية، وهل لذلك علاقة ببعض أنشطة الإغاثة، أم بانفلات الحدود ونشاط «فاجنر» وغيرها فى المنطقة؟!
طوال أسابيع، انحصر النقاش فى الجيش وميليشيا حميدتى، وبقدر أقل «الحرية والتغيير» وبعض مكوّنات السياسة والحركات المُسلّحة. ما تجاهله الجميع والتفتت إليه «دول الجوار» أن كل ذلك يقع فى نطاق جغرافى كامل الأهلية، ولأننا إزاء دولة فلا يجب اختزال الصراع فى ترضية مُتصدّرى المشهد ومن يملكون أدوات إنفاذ رغباتهم. الحقيقة أن الحالة السودانية تُدار منذ 2019 كما لو كان المواطنون ذهبوا مع «البشير» إلى غير رجعة، ومن يرفعون السلاح أو يشغلون مقاعد الحوار كلهم من التيارات المُنظّمة والنُّخب الذين لا يعوزهم التمكين ولا يُعانون لإيصال أصواتهم؛ لذا دعت قمّة القاهرة أن يشمل المسار السياسى حضورًا لكل المكوّنات، وتمثيلاً للفئات المُهمّشة من النساء والشباب وغيرهم. إلى أن يصل السودان للجان الانتخاب، لا بديل عن المُشاركة المباشرة، ولا مُبرّر لاحتكار المشهد وتغييب الأصوات الواهنة، خاصة أنهم أشدُّ المُتضرِّرين: نُهبت المنازل والممتلكات، وتعطّل الاقتصاد وسوق العمل، وتعرَّضت فتيات للاغتصاب فى دارفور وغيرها.. هؤلاء جميعًا لديهم موقف من ترتيبات 2019 وما بعدها، ربما يُطيح كل الطبقة السياسية أو يُعيد توزيع أوزانها، ومن حقهم أن يُعبّروا بقدر ملكيَّتهم للبلد، وما أُجبروا على دفعه من فواتير لا تخصُّهم، ويتحمّل مسؤوليّتها آخرون.
ثغرة «الاتفاق الإطارى» التى يبدو اليوم أنها كانت مقصودة، تمثّلت فى الحديث عن دمج «الدعم السريع» بالجيش دون برنامج زمنى. الوثيقة لم تكن محلَّ توافق؛ لكن «الحرية والتغيير» وربما آخرون معها هدّدوا بفرضها أو الذهاب للحرب، والنتيجة أنها فُرضت ومعها الحرب. لم يكن مُمكنًا أن يذهب «حميدتى» للتصعيد دون طمأنة، وربما تشجيع من الداخل والخارج؛ هكذا ربما كانت النيّة مُبيّتة لدفع السودان إلى ما صار عليه، ومن ثمّ فقد لا تتأتّى التسوية عبر المسارات التى أفضت للتعقيد، ولا ضمن سياق تتنافس فيه المبادرات؛ كأن ما يشغلها الدور والمنافع المستقبلية، لا التهدئة وإنقاذ البلد من مصير مُظلم. قطار دول الجوار قد يكون طريقه مفتوحًا ووصوله أسهل من بقيّة المحاولات؛ لكن لا شك فى أن الصورة ليست ورديّة والغاية تكتنفها مصاعب، ويحتاج الحل إلى جهدٍ شامل تُغلّفه الاستمرارية وطُول النَّفَس. الأولوية لتجميد الحرب بشمولٍ واستدامة، ووقف كل صور العداء والاستقطاب وعقاب السودانيين جماعيًّا، ثم إلزام العالم بمسؤولياته فى الإغاثة وإسناد المُتضرّرين، وبدء مسار تسوية يلتزم ضوابط السيادة والاستقلال والمصالح الاستراتيجية، على أن يكون المُهمَّشون وكل المكونات الاجتماعية والهويَّاتية جزءًا أصيلاً بالنقاش، لرسم أوسع خريطة مُمكنة للتوافق، وتحصين المُخرجات من الشِّقاق والالتفاف مُستقبلاً.. دول الجوار مُخلصة فى نهجها المُعلَن، ومصر كانت وما تزال وسيطًا نزيهًا بالخطاب والمُمارسة، والعالم مدعوٌّ أكثر من أى وقت لقواعد اللعب النظيف. ما فات لم يكن بريئًا، والمهم أن يكفّ الجُناة أياديهم عن الآتى؛ لأجلهم لا لأجل السودان فقط، إذ لن يحتملوا تبعات المُغامرة الفجّة فى بيئة طال التعسُّف معها: مرّةً بتمكين الإسلاميين، ومرّات بالفوضى وإثارة نعرات الفتنة والاستثمار فى المرتزقة والوكلاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة