الفن والثقافة روح الشخصية المصرية ومُرتكز هويّتها، منذ فجر الدولة القديمة حضر الشعر والغناء وطقوس الأداء ضمن الحالة الاجتماعية والروحانية، حتى أن بعض الرؤى تنحاز إلى جذورٍ مسرحية قديمة فى المعابد وسراديب الكهنة الباقى عيانًا من تراثنا، والمُختلط منه باليوميّات ومأثور الحكم والأمثال، تُؤكّد كلّها أن المصريين كانوا وما يزالون شعبًا مُبدعًا، وأنهم تحايلوا على ضغوط الحياة بالكرنفالات الفنية، وزيّنوا أيامهم المُقدَّسة والعادية بحالة فنية جماعية، فكانت أعياد رأس السنة وشمّ النسيم ووفاء النيل، وطقوس التجنيز والدَّفن والأربعين، وأجواء الموالد والمناسبات الدينية والأفراح الشعبية. يسكن الفن تحت جِلد كلّ مصرى، ويُعبّئ روحه ويترسَّب بين طبقات وعيه العميقة، حتى لو تركت الأيام غبارًا على الطبيعة المرحة أو بدا أحيانًا أنها خاصمت تُراثها المُبدع البديع. من تلك الزاوية تُصبح كل خطوة على طريق تمكين الفنّ ونشره وإشاعة قيمه المعرفية والجمالية عيدًا يستحق الاحتفاء، وخطوة واسعة ومهمّة على طريق استكشاف الهويَّة الصافية، وإعادة بناء المزاج الشعبى الحرُّ المنفتح والمتسامح مع كل صور التعبير وتجلِّيات البوح والفضفضة والتماس المُشتركات الجامعة، ومن هنا أيضًا فإن عودة «مسرح السامر» للحياة مُجدّدًا حدث يبعث على السرور، ويُوجب تحيّة المؤسَّسة الثقافية وجهدها، ويفتح الباب لجُملة إشارات لعلّها ضرورية لتمكين الروافع الإبداعية، وتحفيز القوّة الناعمة، واستغلال مخزون المواهب والطاقات العظيم وبالغ التنوُّع والثراء بامتداد خريطة الوطن.
ربما بدأت النهضة مع إرساء ركائز الدولة الحديثة فى ولاية محمد على، وقوامها استعادة الصيغة المركزية مُستندةً لمصادر المعرفة الحديثة وامتلاك جيش وطنى مُستقل. تبع ذلك نموٌّ ملموس فى حصيلة الإبداع، باستكشاف ثراء الموروث الشعبى أو تجربة أشكال فنية جديدة علينا كالمسرح والأوبرا، لكن طفرة الثقافة الحقيقية جاءت بعد 1952. كأن التحرُّر السياسى استتبع تحرُّرًا معرفيًّا وإبداعيًّا، استكمل ما سبق وزاد عليه وطوّره، فتعزَّزت نهضة الموسيقى والغناء والسينما وبقيّة فنون الأداء، وأنجز «الحجاوى» وجامعو التراث حصيلة مُعتبرة، ودخل المسرح فى بعض تجلِّياته حقبةً مصرية خالصة، تأسَّست على أنماط شعبية تنهل من جلسات السمر والأعراس والموالد وتجمُّعات الحقول ومواسم الحصاد. كان مسرح السامر واحدًا من عطاءات اختلاط الأشكال المُستحدثة بالهويّة الوطنية ومخزونها العميق، وتجلِّيًا لحالة الاستقلال عن التأثيرات الخارجية من دون مُفارقة أسباب الجمال ومنطق الصنعة. قد لا يكون من المبالغة القول إن صيغة «السامر» كانت خطوة التمصير الكامل للتشخيص وفنون السرد والمحاكاة بالموسيقى والغناء، وقد أحدث المسرح الناشئ على عتبة السبعينيات أثرًا مُهمًّا فى الحالة الفنية والجمالية بشكل عام، وفى التأصيل الثقافى والمعرفى للشخصية، بما يتوازى مع نزعة تحرير غلَّفت المجال العام طوال ستينيات القرن العشرين، والدليل أنه ما يزال حاضرًا فى وعى الفنانين والجمهور بعد أكثر من نصف القرن من انطلاقته، رغم أنه لم يعمل بجاهزيته الكاملة إلا نحو ثُلث تلك المدّة تقريبًا.
عمل المسرح فى بدايته 4 سنوات ثمّ احترق، وبعد التجديد افتتحه السادات عام 1978 إلى أن توقّف مُجدّدًا بعد زالزال 1992، ثم هُدِم المبنى وأصبحت الأرض مخزنًا للمعدّات حينًا أو ساحة لأنشطة ومهرجانات محدودة ومتباعدة أحيانًا، وطوال سنوات تعطّلت فرقة السامر، وتذبذب مستوى عروضها التى كانت تُنتج فى أغلب الأوقات لأجل تشغيل أعضائها فقط، بغض النظر عن المُتابعة والمردود ووصولها للجمهور المُستهدف. استعادة «السامر» لا تُعيد بعث واحدة من الفرق التى تمثّل مُنتخبًا من مواهب مصر والمعنيِّين بالتراث فقط، إنما تنفخ روحًا لامعة فى جسد نوع مسرحى تضرَّر كثيرًا بعدما تُرك عالةً على مسارح أخرى، غير معنيّة ولا متخصِّصة وتمارسه بحسب الظروف، كما أنها تُضىء بقعةً ثقافية على نيل العاصمة، وفى ذلك إثراء مُهم وواجب للمنارات الفنية، نحن أحوج ما نكون إليه، لا سيما إن كنّا نتحدث عن رؤية جادّة لنفض الغبار عن روح المصريين ووعيهم، ومواجهة خطابات التشدُّد والانغلاق بإشاعة قيم التنوير وأجواء البهجة والإبداع.
لا يلعب الفن دور الترفيه حصرًا، وإن كان ذلك مطلوبًا وضروريًّا ولا عيب فيه، إنما من روح تلك الحالة بكل ما فيها من جمال وبهجة وتواصل إنسانى خلّاق، يُعيد بناء شبكة العلاقات الاجتماعية على وجهٍ أكثر انفتاحًا، يلمس التعدُّد ويحترم نسبية الرؤى، ويُقدّم أدلة عملية على أهمية الفن وفاعلية أدواره، بعيدًا من التصوُّرات المغلوطة وآثار عقود التضليل فى خطابات الصحوة وجماعات الرجعية الدينية. كلّ الفنون مُفيدة ومُشبعة وبنَّاءة، لكن يظلّ المسرح أباها وعُمدتها بالمعنى والأثر، ليس لأنه يُقدّمها مزيجًا عضويًّا مُتضافرًا، تتجاور فيه الكلمة مع التشكيل والنغمة والأداء وملء الفراغ، إنما لأنه ساحة اتصال ديناميكية فى الزمن الفعلى، يتأثَّر المُشاهد باللعبة الفنية ويُؤثّر فيها، بنمط تلقّيه وطبيعة تفاعله، وبالاستحسان المُمتع أو الاستهجان المُنتقد. ليس غريبًا أن يتحدَّث الفنّانون عن اختلاف وقوفهم على الخشبة عن أيّة تجربة أخرى، إذ يُعاينون أثر اجتهادهم فى اللحظة نفسها، ويحصدون مكسبهم الأكبر من لمعان العيون وأصداء التصفيق ومشاعر النشوة والافتتان، ولو سُئل المُشاهدون عن تجاربهم فالمؤكَّد أنهم سيضعون المسرح قبل كل النطاقات الفنية المُتاحة. أمَّا أبرز ما تُتيحه تلك المساحة الساحرة فيخُصّ قدرة الجذب، وإمكانية توريط الجمهور باستكمال حالة فضاء العرض أو بإغراءات الممارسة، واستكشاف المواهب والطاقات الكامنة. إن قاعات المسارح تجربة حقيقية فى ديمقراطية الفن والتعبير، وبيئة خصبة للزراعة والحصاد معًا، كما أنها تحمل قيمةً مُضافة تتمثَّل فى رسالة الجهد والمشقَّة التى يحملها المسرحيّون لمقابلة الناس وإمتاعهم، فهم لا يأتونهم على شاشة سينما مُعلَّبة أو رابطٍ إلكترونى مُقرصَن، ولا بضغطة زِرٍّ سهلة على ريموت التليفزيون.
عودة مسرح السامر نافذة عريضة تُضاف لجهود أخرى إيجابية. هناك لمحات مُضيئة فى تجارب وزارة الثقافة، مثل «مسرح المواجهة والتجوال» ومشروع ابدأ حلمك، لكن الممكن كبير والمأمول أكبر وكلاهما ميسورٌ وغير مُستحيل. لا أرقام نهائية مُدقَّقة، إنما فى أبسط التقديرات يزيد إنتاج المسرح فى مصر على 4 آلاف عرض سنويًّا، نحو 10% منها أو أقل تضطلع بها الوزارة وأجنحتها، والبقيّة جهد الجامعات والمدارس والمؤسَّسات الشبابية والمسرح الكنسى والجمعيات الثقافية وفرق الهُواة. بحسب أرقام 2021 نموذجًا أنتج البيت الفنى 20 عرضًا فقط، وأعاد 43 «ريبرتوار»، بمجموع 900 ليلة عرض و75 ألف مُتفرّج بالقاهرة والإسكندرية. المُتوسّط يُثير الأسى: 15 ليلة وأقل من 1200 مُتفرّج لكل عرض، ولا يزيد جمهور الليلة على 80. لا حجم الإنتاج يليق بالمؤسَّسة وقدراتها وتاريخ مسارحها، ولا العوائد المعنويّة فى الانتشار والتأثير وإيصال المُنتج الفنى لمُستحقّيه تتناسب مع الميزانيات والإنفاق. الأمر نفسه يخصّ أحوال مسرح الأقاليم، إذ تُنجز كل فرقة عرضًا بعشرات آلاف الجنيهات من أجل ليلة واحدة، تحضر فيها لجنة التقييم من القاهرة ثم ينفضّ المولد. تلك الصيغة إهدارٌ صريح لمواردنا المحدودة على حالة روتينية غرضها تستيف الأوراق، بينما يُفترض أن تكون خدمةً مُتاحةً على أوسع نطاق ولأطول فترة ممكنة، وسلاحًا جميلاً وناعمًا يصطف إلى جانب المجتمع فى معركة استعادة هويَّته، ونفض رواسب التشويه وتراكمات القبح التى أحدثها المُتطرّفون وكارهو الحياة.
تملك هيئة قصور الثقافة وحدها أكثر من 600 موقع تتوزّع بامتداد مصر، بعضها يفتقد المسارح، وكثير لا يملك سوى مصاطب خرسانية أو منصَّات مُتحرّكة غير آمنة، وأغلبها مسارحه مُغلقة بسبب مشكلات قديمة فى التنفيذ واشتراطات الأمان. ما فعلته الوزارة مع مسرح السامر فى عامين يستحق الإشادة، ويُشجّع على الطموح فى أن تضع الوزيرة وفريقها خطّةً شاملة وعاجلة لتطوير وتأهيل بقيّة قاعات العرض فى كل المحافظات، حتى تعود للعمل بكامل طاقتها، لا كما اعتادت طوال ثلاثة عقود مضت، أن تكون «غُرفة المسافرين» التى لا تُفتَح إلا للضيوف. ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع كما يقول المأثور الشعبى، وما يجب أن يكون منارة لأهل المدن والقرى لا يجب أن تُعلَّق مفاتيحه فى انتظار مواسم سنوية ضيِّقة تُستَّف فيها الأوراق ثم يعود كل فردٍ لحال سبيله.
نحتاج النظر فى آليات الإنتاج، وبرمجة المواسم، وخُطط العرض والتدوير على المسارح فى المركز والأقاليم.. تتركّز أغلب ميزانية المسرح وإنتاجاته المُعتبرة ولياليه فى القاهرة والإسكندرية، بينما تجارب المحافظات فقيرة زهيدة التكلفة، قليلة الانتشار، أو قاعاتها مُظلمة أغلب العام. الجانب الأكبر فى تكلفة أغلب التجارب يخص الإعداد والتجهيزات، وحتى الاحترافى أو المدعوم بالنجوم منها يُمكن تطوير تعاقداتها لتشمل موسمًا إضافيًّا بأجور أقل، على أن تذهب الليالى الجديدة للأطراف. يُمكن أن يُلزَم كل عرضٍ بـ«كوتة» حفلات خارج العاصمة، مع الاستفادة بخطة بيتى المسرح والفنون الشعبية ومركز الإبداع وفرق السامر مُستقبلاً، والاستعانة بالتجارب البارزة من الجامعات والكنائس والهواة، وتدوير عروض الثقافة الجماهيرية بين المحافظات، ليلتقى المسرحيّون جمهورًا جديدًا، ويتفاعل أهل كل منطقة مع مواهب وصيغ وأشكال فنية ورهانات جمالية أكثر تنوّعًا. إذا افترضنا مثلاً أن لدينا 300 مسرح مُؤهّل لدى المؤسَّسة الرسمية، فالمطلوب أن نُنجز 9 آلاف حفل لا 900 فقط. كل ليلة تتعطَّل فيها خشبةٌ وتُطفَأ أنوار قاعة هى خسارة مجانية غير مُبرَّرة، وتضحية بفرصة مُهمَّة وسهلة لمخاطبة الناس، وإنجاز حالة تثقيف وتهذيب وإمتاع، وبطبيعة الحال فإن فى ذلك بيئةً أخصب لأعداء الحياة، وعمرًا أطول لخطابات العُزلة والتشدُّد وانتكاس الهُويّة.
زيادة أعداد المسارح، وإتاحة القائم منها على نطاقٍ أوسع، يتيحان مساحة عرض كافية لاجتذاب الجمهور بالإلحاح والفضول، ثمّ بالتجربة والفائدة، وصولاً إلى أن يُصبح الفن إجمالاً، والمسرح تحديدًا، سلعةً رائجةً وبحثًا ذاتيًّا دائمًا من الناس عن الإبداع والإشباع. بقليلٍ من المُخصَّصات المالية وإعادة تدوير تجهيزات العروض السابقة بدلاً من دفنها فى المخازن، يمكن أن تتحوَّل عشرات المسارح إلى مُختبرات وورش عمل مُستدامة، وأن تحتضن أجيالاً من هُواة الكتابة والشِّعر والغناء ومن الراقصين والموسيقيين، فنُعزِّز بذلك أدوار قصور الثقافة فى تربية أجيال من الهُواة والمبدعين والتقنيِّين وبقية عناصر الصنعة المسرحية، ونعصم المجتمع من مخاطر انحراف أبنائه أو اختلال نفوسهم. ربما بعض المُوظّفين ما زالوا يتعاملون مع الثقافة باعتبارها خدمةً، والأوقع أن يُنظر إليها كاستثمار فى البشر والمستقبل، قد يبدو للسطحيِّين والبيروقراطيين أننا نُنفق عليها دون عائدٍ ملموس، إلا أننا فى الواقع نجنى أرباحًا طائلة فى سلامة أولادنا ووعيهم، وفى اكتشاف مهاراتهم وتطويرها، وفى صدِّ لَفْحة الأصوليّة وغبارها المُثار من كتائب التطرُّف بضخّها الكثيف للخطابات والمواد البصرية عبر المنصَّات الرقمية. إذا كانت الدولة تخوض حربًا لم تهدأ مع الرجعية والإرهاب، فإن وزارة الثقافة ومُؤسَّساتها مدعوّة للانخراط فيها، بل يمكن، ويجب، أن تكون طليعة جيشنا الناعم، وهى قادرة على ذلك وتملك الأسباب وفرص النجاح.
بافتتاح الوزيرة نيفين الكيلانى مسرح السامر، تُنجز «الثقافة» واحدًا من أهم أدوارها، وتُثبت جدّية حقيقية فى ترميم البنية التحتية الثقافية واستكمال قُدراتها، إلى جانب تحرُّكات أخرى فى الأطراف لا يُمكن إنكارها، إنّما الرهان على قَدر الطاقة، والأمل بحجم المؤسَّسة وتاريخها وعُمق تجاربها لأكثر من ستة عقود. شكرًا لكل من أسهم فى استعادة «السامر» بعد ثلاثة عقود من الغياب جسدًا وروحًا، وننتظر خطوات مُماثلة على امتداد مصر، حتى تُنجز الثقافة ما يليق بها، وتصبح ظهيرًا حقيقيًّا صُلبًا للدولة والمجتمع، ونصل لعدالة الإبداع والاستمتاع وتمكين الناس من الفن والفُرجة، فنعيد للهويّة بريقها، وتستعيد روح المصريين اخضرارها وإقدامها على الحياة والجمال، وحتى تكون المنتجات الثقافية خبز الجميع، كبارًا وصغارًا وفى المتن والهوامش، ويكون شعار مصر ومدنها وقراها وملايين من جمهورها المُتعطّش «يا أهلاً بالمسارح».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة