انقضت المرحلة الصعبة فى الحوار الوطنى. ليس المقصود أن القضايا الخلافية طُرحت كاملة، أو جرى تذويب التمايزات، والوقوع على نطاقات واضحة للتوافق بشأنها؛ إنما كان أصعب ما فى التجربة أن يقفز الجميع فوق رواسب الماضى، وأن يستعيدوا طاولة النقاش التى توارت خلف ترتيبات المرحلة الانتقالية، وما فرضه الخروج من عباءة الإخوان وحربهم المفتوحة على الدولة، ثمّ إرساء قاعدة عريضة يُدار فيها الاشتباك السياسى بمنطقه القويم والمعتاد، بعيدًا من الاستقطاب والفرز والاستبعاد بمعايير أيديولوجية، أو أفكار أوّلية مُغلقة فى الخطاب والمُمارسة. الشهور التالية للدعوة، والأسابيع الماضية من تجارب اللقاء المُباشر، أفضت جميعًا لسياقٍ أكثر وضوحًا ومعقوليّة فى رسم معالم الطريق، وتخطيط مسارٍ قادر على احتواء الصراع وتنظيمه، والدفع لأن يكون قوّة بناء لا عامل فُرقة وتقسيم. الآن، ورغم كل الملاحظات وما يتطلّع إليه فريق أو يرفضه غيره، أصبح الحديث مُستندًا إلى لُغةٍ مُشتركة، وساحة السياسة مُرتَّبة بمقادير ضامنة للتكافؤ عند حدودٍ مُقنعة، والرهان على تحويل فوائض الحالة إلى وقودٍ يملأ خزَّانات المؤسَّسات والأحزاب والقوى المدنية على تنوُّعها، ما يعنى استعادة ديناميكية المشهد بدلاً من السيولة أو التجمد، ورفع حصيلة الجميع من عناصر القوّة والفاعلية، وإعادة بناء المعادلة وفق نسقٍ مُتشابك، يُوظِّف فاعليّة كل طرف فى خدمة بقيَّة الأطراف، وفى إثراء المجال العام بالكامل.
لم يكن الحوار غايةً فى ذاته، وربما لم ينظر له أحدٌ من تلك الزاوية. لا الرئيس فى دعوته، ولا المشاركين فى ترحيبهم والتحاقهم السريع بالركب.. كان ثمّة اتّفاق مُعلن أو ضمنى على أن تأثيرات 2011 وما بعدها، والانتقالة الحادة فى 2013 من رخاوة السياسة وبروز صيغة «ميليشياتية» فى إدارة موازين القوى الناشئة بين الثوَّار والسياسيين وأبنية الدولة، تركت جميعها آثارًا قاسية على قنوات الاتصال، وطبيعة العلاقات، وامتلاك لغة مفهومة وإيجابية بين الجميع. لعلّ النُّخب المدنية كانت تُفضِّل استبقاء حالة الانفتاح رغم موجة الإرهاب والتهديدات الوجودية للمناخ الاجتماعى والسياسى، وكان طبيعيًّا أن تنحاز الأجهزة الأمنيّة لاستعادة السِّلم والاستقرار أوّلاً. المُحصّلة أن الظرف فرض شروطًا ضاغطة على الجميع، فخاضت منظومة ما بعد «30 يونيو» معركتها ضد محاولات تسييل الدولة، واحتجبت بعض التيارات أو تخبَّطت بين الصمت والحياد أو التنسيق مع ذيول الجماعة. «الحوار» كان مدخلاً ضروريًّا لتصفية الرواسب القديمة، وتلطيف الأجواء، والانطلاق من أرضيّة أن يتفهَّم كلُّ طرفٍ دوافع الآخرين من الشركاء، ثم أن يعملوا معًا على تحسين شروط الإقامة المُشتركة فى بيئة يتقاسمونها، ولا إمكانية لأن يُطيح أحدهم الآخر أو يفرض شروطه عليه. وقد عبروا الاختبار الأول فى أروقة الحوار ولجانه، وداخل مجلس أُمناء واسع التنوُّع والاختلاف، وطوال أسابيع المُمارسة العملية وما تفرَّع عنها من مُداولات بينيّة قرَّبت أحزابًا ومهَّدت لبناء تحالفات، ورفعت كفاءة الاتصال بين السُّلطة والقاعدة السياسية العريضة.
السنة التى قضاها أُمناء الحوار فى التحضير كانت لازمةً لامتصاص حرارة اللقاء بعد انقطاع طويل، وإيقاع الانعقاد المُتسارع فى أوّل الأمر ساعد على تجاوز الهوامش، لصالح الاهتمام بالأمور المفصليّة ونقاط الاختلاف الجوهرية؛ ثم تأتى بعد ذلك مرحلة التقاط الأنفاس والنظر فى الحصيلة، وتنظيم ما أسفرت عنه جولات الالتباس والبحث عن قاموس معيارى يجمع المُتحدَّثين على تنازع أفكارهم. هكذا توقَّف مجلس الأمناء فى محطّة وسيطة من الرحلة، طارحًا فى اجتماعه الأخير أواخر الأسبوع الماضى الآليّة الجديدة لتسيير القطار على قضيبين مُتوازيين: استكمال بحث القضايا وفق تتابعها سابق التجهيز، والعودة إلى العناوين العالقة والخلافية لتقريب الرُّؤى بشأنها أو تنظيم الاشتباك فيها. يسمح ذلك بإنجاز ما تبقّى وفق جدول زمنى واضح، ولا يغفل عن ترتيب الأوراق والوصول إلى مُخرجات واضحة يُمكن إجراؤها بقرارات تنفيذية أو اقتراحات تشريعية. لأن الحوار وسيلة ترميم مهمّة يتعيَّن أن يُحافظ على تدفُّقه بوتيرةٍ جامعة، ولأنه ليس هدفًا مقصودًا لذاته؛ فالمطلوب أن تتجمَّع حصيلته فى تصوُّرات عملية قابلة للتطبيق، ولا يغنى أحد المسارين عن الآخر، كما لا يتحكَّم فيه ولا يتعلَّق عليه وجودًا أو عدمًا.
ربما لم يكن أشدُّ المُتحاورين تفاؤلاً يتوقَّع أن ينجز «الحوار» نصف قضاياه تقريبًا خلال أربعة أسابيع فقط. الآن تقف المحاور واللجان على وثائق وأوراق نحو 50 جلسة و60 موضوعًا، وتتبقَّى مثلها تقريبًا.. التوافق مُؤخّرًا على العمل بالتوازى بين جلسات حوارية عامة، وأخرى مُغلقة لتنظيم محصول النقاشات وصياغته فى أفكار وبرامج عمل، يُشير إلى أننا قد نكون بصدد ثمانية أسابيع إضافية على الأكثر، بعدها تنتهى 119 قضية فى 3 محاور و19 لجنة، ويتزامن معها إعلان بقيّة التوصيات فى صورتها الأخيرة أو شبه النهائية، ما يعنى أنه بحلول منتصف سبتمبر على الأكثر قد تكتمل التجربة فى شقّها الوظيفى/ تقريب التيارات وترميم تحالف 30 يونيو، وفى شقّها التوافقى/ تجميع المُشتركات وفرز نقاط الاختلاف ورسم ملامح الحلّ المُحتملة وفق بنودٍ واضحة. حتى لو لم يُفض الأمر إلى ورقةٍ واحدة مُتَّفق عليها تمامًا، فالثابت أن الجميع بنهاية الحوار سيكونون أكثر دراية بأنفسهم أوّلاً، ومُجمل الشُّركاء ثانية، وأكثر خبرة وإلمامًا بالمشهد الواسع، وعلى معرفة بالإجراءات المُحتملة، سواء ما حازت منها إجماع الحضور، أو ما رُفعت للقيادة فى صورة اقتراحات وبدائل.
حتى التئام الجلسات العامة، ربما لم يكن أثر الحوار الوطنى واضحًا للكافة. رغم فاعليّة أنشطة مجلس الأمناء، وقُدرة أعضائه التسعة عشر على إدارة رُؤاهم المُنطلقة من تمايزات أيديولوجية وتنظيمية فاقعة؛ كانوا فى الأخير حيّزًا نخبويًّا لا تنقصه اللغة المشتركة؛ مهما كان عُمق الانقسامات. اللقاءات الموسَّعة مثّلت الاختبار الحقيقى فى التجربة؛ لأنها جمعت فُرقاء أكثر تشدُّدًا وراديكالية، ومن أجيالٍ وتيارات شديدة التنوُّع وحادّة الاختلافات، وبينهم عوَّام ومُثقّفون وتكنوقراط، لا تعنيهم خرائط السياسة ولا الحدود المرسومة بينها بشىءٍ من السطحية حينًا أو الانفعال أحيانًا. واقع الحال بعد تلك الأسابيع أننا استوثقنا عمليًّا من أن البيئة الاجتماعية والسياسية لم تفقد كفاءتها، وليس صعبًا أن تجلس إلى طاولة واحدة، وتُدير أعقد الملفّات بمنسوبٍ عاقل من الحِدّة والسخونة؛ والأهم أن المُمارسة أسقطت أى حديث استباقى عن المناورة والأغراض المُضمرة، أو البحث عن الدعائية والاحتواء. قضت الدولة سنواتها الأخطر تلعب مُنفردةً، وقتما كانت فى حاجة حقيقية لظهير صُلبٍ من النُّخب والطليعة السياسية، وما تستند إليه الآن أكثر رسوخًا ممّا كانت عليه فى 2014 وما بعدها؛ وإذا كان من مصلحتها التئام الصفوف وتجميع القوى فى الوقت الراهن؛ فإنه احتياج البحث عن قاعدة مُستقبلية حاملة للجميع، ودافعة لهم؛ ولو كان النظام مُستفيدًا بحصَّةٍ من ذلك؛ فإن القوى التى كانت غائبة تمامًا، أو انعزلت عن خزّانها الشعبى وحاضنتها الاجتماعية، تظلّ المستفيد الأكبر من بقيّة الحصص.
تحدّث بعض أعضاء مجلس الأمناء عن إثارة الاجتماع الأخير أُمورًا تخص إدارة الحوار، وضبط القاعة والوقت، وصيغة المُخرجات فى ضوء مُشاركات الحضور، والتوسّع فى تمثيل الفئات الاجتماعية والمهنيّة المعنيَّة بالموضوعات؛ لكنهم استقرّوا على استمرار معيار «4 دقائق» لكل مُتحدِّث، وضبط بقيّة المُداخلات. يتَّسع المقام لكل الأفكار، وأن تُثار التفاصيل التنظيمية بوتيرة مُنتظمة ومُترافقة مع مسار الجلسات؛ فإن فى ذلك دليلاً على ديناميكية التجربة، وأنها لا تنطلق من غايات ولا تُؤطّرها حدود مُجهّزة سلفًا؛ إنما تتقصّد وتجتهد فى تأسيس التوافق على ركائز الاقتناع، وإرضاء كل الأطراف بما لا يُخل بالمحدِّدات ذات الحجِّية كالدستور والقانون ومسائل الأمن القومى واستبعاد الإرهابيين والوالغين فى الدم.. سنّ المشاركون أعراف الحوار وحدوده، وارتضتها الموالاة، وتمسّك بها المعارضون إقرارًا بالعمل تحت سقف 30 يونيو، وببقائهم وانخراطهم الجاد يُبرهنون على استيفاء حدود معقولة من شروطهم وتطلُّعاتهم. عندما قال الرئيس إنه مُتلزم بإنفاذ المُخرجات التوافقية دون قيدٍ أو شرط؛ كان يُحصّن «الحوار» من الاستقطاب والتجاذبات التى قد يلجأ إليها البعض فى إطار لُعبة الضغط والابتزاز؛ لا سيما أن المنصَّة استندت منذ البداية لمُبادرةٍ رئاسية، وحملت تلك الصيغة ضمانة مُقنعة لفُرقاء السياسة؛ فارتضوا أن تندرج الحالة تحت المظلّة الرئاسية، وأن تنضبط بسقف الثوابت الوطنية التى لا خلاف عليها بين قوى 30 يونيو، خاصة أن ميثاق الثورة يُشكِّل عقدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا مع الشارع، والأخير كان رافعة المشهد واضطلع بمهمّة إصلاح ما أفسده السياسيّون، بالتساهل أو العجز أو التحالفات المشبوهة مع الرجعية الدينية.
بانطلاق الجلسات المُغلقة لصياغة المُقترحات، يكون قطار الحوار الوطنى قد توقّف عند أول محطّة مهمّة على طريق المستقبل. ليس مُنتظَرًا أن تُفضى اللجان النوعية المُصغّرة، وقد اتّفق الأُمناء على ألا تتجاوز خمسة عشر شخصًا، إلى مُدوّنة موحّدة لا خلاف فيها، ولا أن تتبخّر الاختلافات ونقاط التصلٌّب والمصالح الصغيرة؛ إنما المُتوقَّع أن يخرج المجتمعون بوفرة أكبر من احترام الاختلاف، ونسبيّة النظر للأمور، وأنه لا أحد يحتكر الحقيقة أو بمقدوره إنفاذ رؤاه على حساب الآخرين.. الدخول إلى «الحوار» كان مطلوبًا لترشيد الصراع من أجل التجهُّز لمرحلة مُقبلة من إدارته بأدوات سياسية ناضجة، أوّلها تنافس الأفكار والبرامج، وآخرها صناديق الاقتراع والتنافس على القبول الشعبى. لقاءات اللجان كانت حلقة الوساطة الضرورية لبناء جبهة مُتّحدة فى مصالحها/ إثراء الدولة وتفعيل السياسة؛ أما اجتماعات الصياغة فإنها أقرب إلى منطق الانتخاب: فى الأولى يحضر الجميع على قدم المُساواة دون ترجيح مُسبَق أو معرفة بما قد تُسفر عنه الأمور، والثانية تُرسم فيها الخطوط الافتتاحية من قواعد اللعبة المُرتقبة، ويعرف كل طرف خريطة الاحتمالات التى قد يؤول إليها المشهد، وما يتعيّن عليه إنجازه من أجل التحضُّر لمرحلة التنافس الفعلى، التى تسمح بالصراع السلمى والسعى إلى الاستحواذ والإقصاء؛ لكن وفق معايير الشعبية والسباق على إقناع الجمهور.
طموح أى فصيل سياسى لإزاحة خصومه ليس عيبًا؛ بل قد يكون مهمًّا ومطلوبًا، لأنه يُؤسِّس لفكرة المشروعية الاجتماعية، وتجويد الأفكار والممارسات، وترجمة الأوزان الحقيقية فى الشارع إلى حصص من السلطة والفاعليّة داخل المؤسَّسات؛ إنما الخطر أن تذهب البيئة السياسية إلى تلك المرحلة قبل استيفاء التوافق على مُحدِّدات الصراع وقيمه العُليا. ما حدث خلال حُكم الإخوان أنهم سعوا لتوظيف الشارع ضد المُنافسين؛ ثم ضد الشارع نفسه لاحقًا؛ بمعنى الانطلاق من قبول الناخبين لمُصادرة المجال العام ثم حرمان الناس من أصواتهم. ما يُحدثه الحوار الوطنى الآن أنه يُخطِّط الملعب السياسى بضوابط والتزامات؛ ثوابتها ما اختاره المصريون جميعًا فى لحظة إجماع وطنى نادرة عنوانها 30 يونيو، ويُطوّر قوانين اللعب وفق توازن دقيق يُراعى تطلُّعات كل اللاعبين، ويحترم هواجسهم واحتياجهم لتذويب رواسب الماضى. ليس شرطًا هنا أن تخرج لجنة الصياغة باتفاقٍ جامع على القائمة المُطلقة أو النسبية، أو غير ذلك من نقاط التنازع؛ بقدر التيقُّن من أن المشهد المقبل سيصنعه أطرافه جميعًا بالتساوى، وانطلاقًا من ديناميكيته المتنامية فإنه يقبل البحث وإعادة النظر والتعديل دائمًا، حسبما تتوفَّر الظروف الموضوعية التى لا يغيب عنها الاتفاق الهادئ واللغة المشتركة. إيمان الدولة فى أعلى مستوياتها بمسار الحوار، ونزول الموالاة عن منطق الأغلبية الذى قد يُغرى بالإقصاء، ثم تمسُّك المعارضة بالتجربة ورسائل أغلبيتها الإيجابية عنها، كلها ضمانات لأن المُخرجات لن تفارق حيِّز التوازن؛ بما يحفظ القبول الواسع ويصون حالة «التوافق الساخن» إن جاز التعبير، مع تقبُّل الجميع لفكرة الرضا فى ناحية وإرضاء الشُّركاء فى غيرها، ومن ثمَّ فإن الخروج بشبكة علاقات ناضجة وقنوات اتصال مفتوحة ومُستدامة، سيظل أكبر المكاسب وأهم ما يمكن البناء عليه، لواقع السياسة ولاعبيها ومُستقبل البلد ومجموعها الشعبى العريض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة