سقط الإخوان - حُكمًا وقرارًا - فى 30 يونيو؛ لكن إنفاذ الإرادة الشعبية احتاج 72 ساعة إضافية لم تخلُ من محاولاتٍ جادة ومُخلصة للتوافق، بما يحترم رغبة الجمهور ويُجنّب كل الأطراف كُلفةَ الحلول الخشنة، فى الأخير وُضعت نقطة فى آخر سطر الجماعة بعد ظهيرة 3 يوليو 2013، بعيدًا من كل الحكايات وما احتوته الكواليس من تفاصيل، باتت الثورة الشعبية العارمة حاملةً لميقات اندلاعها فى آخر نهارات يونيو؛ لكنها مُوزّعة على أربعة أيام مشحونة لا يمكن فصلها عن بعضها، إن قيمة الإجماع الوطنى والغضبة الشعبية وانتفاضة الملايين فى 30 يونيو دفاعًا عن وجه مصر الصافى غير المُشوّه، لا تنفصل بحالٍ عن خارطة الطريق والثالث من يوليو؛ ليس لجهة كونه فرعًا على الأصل فقط؛ إنما لأنه كان تلخيصًا مُكثّفًا وغير مُخلٍّ لآلاف المشاهد قاطعة الدلالة فى الشوارع والميادين، ولا وجه للوقوف بإجلال أمام تلك الثورة ما لم يكن وقوفًا جامعًا وعادلاً بين أيامها بالتساوى.
منشأ الشرعية الثورية بكاملها من مشهد 30 يونيو الجامع. تلك الموجة الوطنية الهادرة فرضت على كل المؤسَّسات استقبال الرسائل والتعاطى معها، وفى مقدّمتها القوات المسلحة التى أمهلت الجميع 48 ساعة. كان على «الإخوان» أن يتلقّوا إشعارات الشارع بقدرٍ من الوعى والرزانة؛ لكنهم أثبتوا أن غايتهم المُضمرة لا تتلاقى مع إرادة الناس ولا تحترمها. فى المقابل تواصلت معهم المؤسَّسة العسكرية كغيرهم من التيارات، وأبقت مقعدًا لرئيس حزبهم سعد الكتاتنى، ولم تنقطع محاولات التوافق حتى قبل دقائق من إعلان «خارطة الطريق». إذا كانت الجماعة اختارت معاداة 30 يونيو قبل اندلاعها، فإن كل مواقفها التالية ضد 3 يوليو وما بعده تبدو مفهومة ومُتوقَّعة؛ لكن تحالف الثورة على تنوُّع مكوّناته لا يمكن منطقيًّا ولا عمليًّا فصل اليومين؛ انطلاقًا من أن قرار الشارع الآمر كان بين اختيارين: أن يتصدّى الناس لإنفاذ إرادتهم بأنفسهم، أو تضطلع عنهم النُّخب والمؤسَّسات بالمهمّة، ومن ثمّ فإن خارطة الطريق كانت امتدادًا للمليونيات الهادرة، وتجلّيًا سياسيًّا وإجرائيًّا لانتفاضتها الشعبية. إن أية محاولة لاختزال الثورة فى واحدٍ من أيامها، أو الفصل بين زراعة الشارع وحصاد الطليعة السياسية والمؤسَّسية؛ إنما هى محاولة مشبوهة لا يمارسها سوى الإخوان، أو المُلتحقين بهم ومن يعملون فى خدمتهم بالوكالة ومن وراء ستار.
كانت حصيلة «الإخوان» فى الحكم سيئةً ومُزعجة لدرجة أنها قطعت كل الخيوط مع الشارع. شاهد الناس - بأعينهم - تغوُّل الجماعة على الدستور والقانون، وحصار المؤسَّسات، والتلويح بالفوضى، وضرب الخصوم وتصفيتهم فى الشوارع علنًا، وصولاً إلى احتلال تقاطع رابعة العدوية وتهديد المُتظاهرين بالسحق والدم. الرد الطبيعى حال تُركت المساحة بين الطرفين مفتوحةً أن يتقدّم المُتظاهرون للقصاص لأنفسهم والبلد؛ من هنا كان تدخُّل القوات المسلّحة وأجهزة الدولة ضرورةً فرضها التعقُّل وتجنيب مصر سيناريوهات مُظلمة، أرادها الإخوان وراهنوا على أن الدولة وحدها ستتكبّد فاتورتها الباهظة. عندما نُقل محمد مرسى إلى وجهةٍ آمنة كان الغرض قطع الطريق على أيّة تطوّرات مُفاجئة فى خصومة التنظيم مع الشارع، والدليل أنه سجّل من مقرّه المُؤقَّت كلمةً مصوّرة فى اثنتين وعشرين دقيقة، أذاعتها الجزيرة وقنوات الجماعة بعد عزله، وبدا فيها مُصرًّا - مع تنظيمه - على التصعيد إلى المدى الأقصى، فكرّر مُفردات الشرعية والدم والتمسك بأجندة الخيارات المُسبّبة للأزمة عشرات المرات، بل عاد للحديث عن مُبادرة كانت رفضتها الجماعة وخيرت الشاطر أواخر يونيو، بينما كان الشارع تجاوزها تمامًا. بقدر ما أكّد المشهد أن القوات المسلحة أدارت المرحلة بموضوعية ونزاهة، فإنه حمل رسائل بالغة الخطورة عن نوايا الإخوان وما يتحضَّرون له، ولم يتأخّر السيناريو طويلاً للأسف.
صبيحة 8 يوليو، هاجمت عناصر التنظيم مقرّ الحرس الجمهورى، وكان يقودهم محمد البلتاجى، وعصام سلطان، وأبوالعلا ماضى، بحسب قائمة المُتهمين فى القضية. وبعد ساعات من «جمعة التفويض» فى 26 يوليو ونزول ملايين المصريين لتكليف القائد العام بمواجهة الإرهاب، دفعت الجماعة ميليشياتها لإثارة الفوضى فى محيط جامعة الأزهر وطريق النصر، وهى القضية المعروفة بـ«أحداث المنصَّة» المُتهم فيها قرابة 80 من كوادر الجماعة وحُلفائها، على رأسهم المُرشد محمد بديع، ومحمد البلتاجى، ومحمود عزت، وأسامة ياسين، وصفوت حجازى، وعاصم عبدالماجد. ولم تتوقف المناوشات وأعمال العنف وصولاً إلى تفجُّر الموجة بالغة الشراسة بدءًا من 14 أغسطس، بما شملته من قطع طرق، وحرق مُؤسَّسات، ومهاجمة كنائس ومتاحف ومقرّات أمنية، وموجات تفجير بامتداد مصر. المنطق أن من يرفض الإرادة الشعبية الحاضرة بشحمها ولحمها؛ فلن يقبلها فى الصناديق وبطاقات الاقتراع، ما يعنى أن الوقت لم يكن ليطول قبل أن يصطدم المصريون بموجة الإرهاب نفسها إذا خسر الإخوان الانتخابات، أو فشلوا فى فرض إرادتهم على الناخبين.
صحيح أن الجماعة أثبتت فشلاً عميقًا فى الوفاء بالتزامات الحكم، على قاعدة رصينة من الرؤى والأفكار وبرامج العمل الناضجة؛ إلا أن قصورها الفادح فى السياسة والإدارة لم يكن العقبة الحقيقية. حتى الإخفاق واسع المدى فى مُجابهة التحدّيات كان يمكن استيعابه، لو توفّر حُسن النيّة، على الأقل من باب حداثة العهد وثقل الميراث وقبول منطق التجربة والخطأ إلى حين؛ لكن ما كان مرفوضًا بالكُليّة ولا يحتمل الصبر وتكرار المحاولات، يخص ما أبدوه منذ الوهلة الأولى من نزوع للهيمنة والتسلُّط واختطاف البلد واتّخاذ الناس رهائن أو أسرى حرب.. لا ينحصر ذلك فى لحظة تصدُّر واجهة السلطة واحتكار المسارات التشريعية والتنفيذية فقط؛ بل يشمل ما أسفرت عنه «الإخوان» منذ بروز ملامح غلبة المُحتجِّين فى 25 يناير، وما تلاها من مبادرة إلى ركوب الموجة وحرفها نحو مُمارسة تتقدّم فيها الأصولية وخطابات الابتزاز العقائدى على السياسة وتوازنات قوى الشارع. كان جليًّا منذ خطوة الجماعة الأولى فى فضاء الثورة أنها تسعى إلى تأميمها لصالح أجندة مُجافية للشارع، وأن الغاية المُضمرة تبدأ من استثمار فوائض الشعارات الدينية ضمن مشهد الاحتجاج؛ من أجل تحويل مساره ليصبّ مُستقبلاً فى خزانة التنظيم، مع ما يتفرَّع عن ذلك من إقصاء لكل الأطراف؛ إن بالخديعة وابتلاع التوافقات، أو بوضعهم فى خصومة مع الدين بعدما يتم لهم ما أرادوا من تثبيته فى الواجهة.
شهدت الأيام الأولى من انخراطهم فى التظاهر تركيزًا على إبراز سمات عقائدية تنحو إلى تديين الحالة وإلباسها لحيةً وعمامة؛ لكن التعبير الأوضح جاء تاليًا لتنحِّى «مبارك»، عندما استدعت الجماعة عضوها التاريخى ومفتى الدم يوسف القرضاوى إلى ميدان التحرير، ليخطب فيما أسموها «جمعة النصر». كان المشهد جزءًا من حالة المُغالبة واستعراض العضلات، ما أفضى لاحقًا إلى زجِّها باثنين من أصل سبعة فى لجنة تعديل الدستور، ثم استكمال المُخطَّط برفع منسوب الحشد الدينى لتمرير التعديلات فى استفتاء مارس 2011. قال الإخوان وحلفاؤهم إن النتيجة تصويت على مشروعيتهم، و«الصناديق قالت للدين نعم» وعلى المُعترضين الخَرسُ أو الهجرة، ومن تلك الحالة - وبمنطقها - ساروا إلى بقية المحطَّات بصيغة المُكاسرة وعقود الإذعان: انتخابات البرلمان، ثم تشكيل تأسيسية الدستور، فانتخابات الرئاسة، ومؤتمر فيرمونت المشبوه مع حفنة من الطيبين أو المُغيِّبين، والتغوّل فى تشكيل الهيئة الرئاسية والحكومة ومجلس المحافظين، وصولاً للإعلان الدستورى وأزمة النائب العام ومُحاصرة المحكمة الدستورية ومؤتمر نُصرة سوريا. ارتكبت الجماعة كل الموبقات السياسية مشفوعةً بخطاب دينى ساذج، فى الأخير لم ينطلِ على المواطنين؛ بدليل أنهم نقضوا غزله وأطاحوا صحائفه مع إطاحة الإخوان أنفسهم؛ إلا أنه كان رهانًا خطيرًا يُهدِّد بشقّ الصف وقسمة المجتمع، ويستهدف ذلك فعلاً، سعيًا إلى وضع الدولة بكاملها فى عين العاصفة.
ظلّ التناقضُ سمةً مرافقةً للجماعة دائمًا وفاضحةً لأهدافها؛ حتى لو ساعد ارتباك الظرف التاريخى على تعمية الواضح أحيانًا. فى حكومة عصام شرف منعوا محافظًا قبطيًّا من تولّى عمله فى قنا، لكنهم تجمّلوا أمام السياسيِّين بوضع رفيق حبيب فى موقع نائب رئيس حزبهم الفاسد «الحرية والعدالة»، اختاروا سمير مرقص ضمن الهيئة المعاونة للرئيس وفى الوقت نفسه استثمروا فى أحداث الخصوص والاعتداء على الكاتدرائية بالعباسية، وقال الشاطر فى لقاء مع حلفائهم المُتطرّفين فيما عُرف بـ«الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» إن 80% من المتظاهرين ضد إعلانهم الدستورى الفج فى نوفمبر 2012 من الأقباط، وكرَّرها «البلتاجى» بحقّ ثوار 30 يونيو، وكان الهدفُ طبعًا صَرفَ خطابات الطائفية رصيدًا مُضاعفًا لدى المحافظين دينيًّا؛ ربما لهذا كان طبيعيًّا أن تطالَ موجتُهم الإرهابية المُتفجّرة بعد فضّ اعتصام رابعة الإرهابى نحو 90 كنيسة ومبنى خدميًّا لكل الطوائف المسيحية؛ جنبًا إلى جنب مع مُهاجمة المتاحف وقصور الثقافة وأقسام الشرطة والمنشآت العامة. أراد الإخوان خطف البلد ومؤسَّساته، وفى العمق ظلّوا يكرهون تلك المؤسَّسات، ويستثمرون فى الفتنة، وتزعجهم هوية مصر وثقافتها الثرية بتنوُّع الحاضر وعُمق التاريخ، وتلك أخطر ما فى تجربتهم لو امتدّت أكثر: أنهم كانوا سيُحاربون المجتمع بتأليب مكوناته ضد بعضها، وسيخنقون الدولة بإزاحة مؤسَّسات واستبدال غيرها من داخل التنظيم، ولن يتوانوا فى استهداف الهوية الجامعة وضربها من كل الاتجاهات؛ حتى يصبح بمقدورهم قولبة المصريين والإمساك بخناقهم من باب التنميط والتطرُّف، بدلاً عن مخاطر الاصطدام بقِيَم التعدُّد والسماحة والإبداع، وكلها تُمثّل تهديدًا عميقًا لأى تنظيم رجعى مُغلق وكاره للحياة.
كان البديل عن 3 يوليو أن يُترك الشارع للإخوان، وهذا ما تمنَّته الجماعة، وقد اختبرت أدوات الردع عبر عشرات من بروفات العنف المُتكرِّرة، وتجهّزت بميليشيات مُدرّبة بإشراف أسامة ياسين، ومحمد كمال. مُورست ضغوط داخلية وخارجية من أجل تحييد الأجهزة الأمنية لصالح الخطّة؛ ما كان يعنى المُجاهرة الصريحة باحتكار المجال العام، وتذويب الدولة فى كأس التنظيم. ثقافة مصر وبنيانها الإدارى وتاريخها فى هيكلة السلطة وإجراء القانون لم تكن تسمح؛ لذا كان الصدام محتومًا، إن فى هذا التاريخ أو بعده. الممرّ بين شوارع 30 يونيو وطاولة 3 يوليو كان إجباريًّا؛ فلم تترك الجماعة مسارًا بديلاً يحترم الناس ويصون الدولة؛ ربما لهذا يتقدّم يوم «خارطة الطريق» فى الأهمية على أيّام التظاهر، رغم أنه عمليًّا ناشئ عنها ومُترتِّب عليها؛ لكنه كان بمثابة الأنياب القانونية والمُؤسَّسية التى احتمى بها الشارع، والتجلّى السياسى والتنفيذى الذى تُرجمت من خلاله فورة الغضب الشعبية العارمة فعلاً مُنظّمًا، كان مطلوبًا على وجه السرعة، وذا أثرٍ نافذٍ فى إنقاذ الوطن والمواطنين.
ربما لم يتحقَّق تعريف الثورة كاملاً فى 25 يناير، من حيث كونها انتقالاً من صيغة حُكمٍ إلى غيرها، أو تحسينًا وإعادة بناء للقائم فى إطار منظومة علاقات وتوازنات مُغايرة. بدا سريعًا أن «الإخوان» كانوا فى خصومة مع النظام لوراثته إذا تيسَّر ذلك، وليس لانحيازات وطنية أو خلافات سياسية وفكرية عميقة؛ لذا حافظوا على الركائز القديمة، وسعوا إلى إدماج أنفسهم فيها، بصيغة الحزب المُهيمن والمركزية المُتسلّطة والسعى لامتلاك مؤسَّسات قمع خاصة، وساعدهم فى ذلك تراخى القوى المدنية وهشاشتها. رغم ذلك تظل لـ«25 يناير» رمزيتها المعنوية انطلاقًا ممّا حفظه لها دستور 2014، لكن لعلّ صيغة الثورة كانت أكثر تحقُّقًا فى 30 يونيو، لجهة أنها أسقطت منظومة العلاقات القائمة وتفرُّعاتها، وأحبطت أجندة إلحاق الدولة بمشاريع أُمميّة أو مُخطَّطات تمدُّد وهيمنة إقليمية، وأنهت صيغة حزب السلطة المُحتكر لدولاب الدولة، وقدَّمت نموذجًا تصحيحيًّا ناضجًا لثورة يناير من داخلها. من تلك الزاوية كانت «30 يونيو» انعطافةً حادة فى مسار المنطقة، إذ مهَّدت الأرض لإحباط مُخطَّطات رديفة فى ليبيا وتونس والسودان وسوريا وغيرها، وقوّضت نزعتين إمبراطوريتين كانتا تتسلَّلان من خاصرة الإقليم، وهى بذلك الأثر ليست موجةً استنفدت دلالاتها بالاحتجاج؛ إنما فعلاً ثوريًّا امتدّ إلى أن حصد ثماره بالتوافق، وهكذا لا انفصال بين اليومين من أيّة زاوية: أعلن الشعب إرادته مُباشرةً فى الشارع، ثم أنفذها عبر مُمثّليه ومؤسَّساته فى خارطة الطريق، وإذا كنا نحتفل باليوم الوطنى الناصع والمشهود فى 30 يونيو، فإن 3 يوليو لا يقل أهمية ولا لمعانًا، ويستحق الاحتفاء والفخر بعظمة الحشود الهادرة فى الشوارع، وكفاءة المؤسَّسات وإخلاصها فى الكواليس، وصلابة الجميع أمام ابتزاز الجماعة الإرهابية ورُعاتها فى المنطقة وبعض عواصم العالم الكبرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة