كل رواية تتحول فى ذهن قارئها إلى صور وخيط مواز للأحداث يترجمها العقل، ويخلطها بالمعارف التى يحصلها، نفس الأمر مع الفيلم السينمائى، ويختلف التلقى مع الواحد عن الآخر، حسب معارفه واطلاعه وثقافته ومجتمعه، ومدى قدرته على التفاعل وربما حالته النفسية.
من هنا يمكن تفهم الاختلاف بين المتلقين لفيلم "أوبنهايمر" Oppenheimer، بين من يرونه فيلما غامضا، أو صعب الفهم أو مفككا، ومن يرونه عملا مهما متماسكا من ناحية عناصر التمثيل والسيناريو، مع وجود خطأ ظهور العلم الأمريكى بـ50 نجمة، بينما وقتها كان 48 نجمة فقط.
شخصيا أراه عملا مهما، ومن جهة التمثيل نجح كيليان مورف فى تجسيد دور روبرت أوبنهايمر، بجانب باقى الممثلين، خاصة روبرت داونى جونيور فى دور ستراوس، وإيميلى بلنت ومات ديمون وفلورنس بيو وجوش هارتنت وكيسى أفليك ورامى مالك الذى قدم مشاهد قليلة لكنها كاشفة عن موهبة وصعود فى دور ديفيد هيل، خاصة أن قبوله لدور قد يبدو صغيرا بعد أن قدم دور البطولة فى فيلم الملحمة البوهيمية "Bohemian Rhapsody" وجسد فريدى ميركورى بطل فرقة الروك البريطانية كوين، وأيضا فلورنس بيو، فى دور جين تاتلوك.
الفيلم كتبه وأخرجه كريستوفر نولان عن كتاب السيرة الذاتية بروميثيوس الأمريكى، من أسطورة بروميثيوس الإغريقية سارق النار، عندما حرمت الآلهة الناس من النار، سرقها من الآلهة وأعطاها لهم، لكن الواقع أن بروميثيوس أحب العالم والبشر ومنحهم العلم، لينجو من الموت بردا، بينما أوبنهايمر أحب علمه ولو على حساب بشريته، وأنه صنع الدمار.
اختار المخرج نولان أن يكون الانفجار الأول التجريبى فى صحراء نيفادا هو ذروة الحدث، يختفى الصوت تماما من على الشريط السينمائى، وتعلو أنفاس أوبنهايمر، ويردد من كتاب الهندوسية: "الآن صرت الموت، مدمر العوالم"، ليأتى بعدها الانفجار مدويا كاشفا عن عالم جديد، والذى ورد فى الحوار "أنت لا تصنع سلاحا جديدا بل عالما جديدا".
صمم كريستوفر نولان مشهدا مرعبا للتفجير النووى، حيث شق ضوء ساطع ظلمة صحراء نيومكسيكو، وأصيب المراقبون بعمى مؤقت رغم النظارات الواقية على عيونهم، وأطاحت موجة الانفجار ببعضهم بالرغم من كونهم بعيدا عن مركز التفجير بمسافة آمنة، وارتفعت ألسنة الانفجار إلى السماء، ومشهد "عيش الغراب" الشهير.
القنبلة النووية أطلقت قوة تفجيرية تساوى 20 ألف طن من "تى إن تى"، وتتحول الرمال القريبة من مركز التفجير إلى زجاج أخضر، ليصحو ضمير أوبنهايمر وحسه الأخلاقى، وقد بدا مرتبكا ومثقلا بما صنعت يداه.
ومع الوقت يتحول من بطل غلاف المجلات والصحف، إلى مشكوك فيه أمام مكتب التحقيقات الفيدرالى ولجنة التحقيق، الفيلم يحمل رؤية مزدوجة، بين محاولة تبرئة أوبنهايمر من جريمة صنع سلاح نووى مدمر، وإلصاق التهمة فى السياسيين، باعتبار الرئيس الأمريكى ترومان صاحب قرار إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين، وقتل حوالى 200 ألف مدنى، لتبدأ كوابيس الرعب من دمار العالم، وأن روبرت أوبنهايمر شعر بالندم لكونه كان قائد مشروع إنتاج القنبلة، خاصة أنه كان يرى أن إلقاء القنبلة الثانية على نجازاكى لم يكن ضروريا.
فهل كان الدمار من صنع العلماء وأوبنهايمر، أم أنه صنع بقرار سياسى، وهو سؤال مطروح منذ بدأ الرعب النووى، بل ومع كل علم يمكن توظيفه لصنع الدواء، أو لصنع الموت والقتل بالسلاح النووى، أو البيولوجى، حيث هناك مع كل علم، احتمال لأن يتم توظيفه فى صناعة الموت والشر، والبحث عمن يصنعه، هل هو العلم أم السياسة؟